البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البينة

هذه السورة مكية في قول الجمهور . وقال ابن الزبير وعطاء بن يسار : مدنية ، قاله ابن عطية . وفي كتاب التحرير : مدنية ، وهو قول الجمهور . وروى أبو صالح عن ابن عباس أنها مكية ، واختاره يحيى بن سلام .

لما ذكر إنزال القرآن ، وفي السورة التي قبلها { اقرأ باسم ربك } ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول يتلو عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها ، وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك . وقرأ بعض القراء : والمشركون رفعاً عطفاً على { الذين كفروا } .

والجمهور : بالجر عطفاً على { أهل الكتاب } ، وأهل الكتاب اليهود والنصارى ، والمشركون عبدة الأوثان من العرب .

وقال ابن عباس : أهل الكتاب اليهود الذين كانوا بيثرب هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا بمكة وحولها والمدينة وحولها .

قال مجاهد وغيره : لم يكونوا منفكين عن الكفر والضلال حتى جاءتهم البينة .

وقال الفراء وغيره : لم يكونوا منفكين عن معرفة صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم والتوكف لأمره حتى جاءتهم البينة ، فتفرقوا عند ذلك .

وقال الزمخشري : كان الكفار من الفريقين يقولون قبل المبعث : لا ننفك مما نحن فيه من ديننا حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكى الله ما كانوا يقولونه .

وقال ابن عطية : ويتجه في معنى الآية قول ثالث بارع المعنى ، وذلك أنه يكون المراد : لم يكن هؤلاء القوم منفكين من أمر الله تعالى وقدرته ونظره لهم حتى يبعث الله تعالى إليهم رسولاً منذراً تقوم عليهم به الحجة ويتم على من آمن النعمة ، فكأنه قال : ما كانوا ليتركوا سدى ، ولهذا نظائر في كتاب الله تعالى ، انتهى .

وقيل : لم يكونوا منفكين عن حياتهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة .

والظاهر أن المعنى : لم يكونوا منفكين ، أي منفصلاً بعضهم من بعض ، بل كان كل منهم مقرّاً الآخر على ما هو عليه مما اختاره لنفسه ، هذا من اعتقاده في شريعته ، وهذا من اعتقاده في أصنامه ، والمعنى أنه اتصلت مودّتهم واجتمعت كلمتهم إلى أن أتتهم البينة .

وقيل : معنى منفكين : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وأن ينفصل فلا يلتئم ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، انتهى .

ومنفكين اسم فاعل من انفك ، وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر .

وقال بعض النحاة : هي الناقصة ، ويقدر منفكين : عارفين أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، أو نحو هذا ، وخبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه لا اقتصاراً ولا اختصاراً ، نص على ذلك أصحابنا ، ولهم علة في منع ذلك ذكروها في علم النحو ، وقالوا في قوله : حين ليس مجير ، أي في الدنيا ، فحذف الخبر أنه ضرورة ، والبينة : الحجة الجليلة .