فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ( لم يكن )

تسمى سورة البينة ، وسورة المنفكين ، وسورة القيامة ، وسورة البرية ، هي ثماني آيات ، أو تسع آيات ، وهي مدنية في قول الجمهور ، وقيل : مكية . أخرج ابن مردويه عن ابن عباس : نزلت بالمدينة ، وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة ( لم يكن ) بمكة .

وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقرأ عليه .

وعن أبي حية البدري قال : " لما نزلت ( لم يكن ) إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن الله يأمرك أن تقرئها أبيا ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأبيّ : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة . فقال أبيّ : وقد ذكرت ثمّ يا رسول الله . قال : نعم ، فبكى " {[1]} أخرجه أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه .

قيل : إن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فأراد بقراءته صلى الله عليه وآله وسلم عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، يقرأ ويعلم غيره .

وعن إسماعيل بن أبي حكيم المزني - أحد بني فضل - سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : " إن الله يستمع قراءة { لم يكن الذين كفروا } فيقول : أبشر عبدي ، وعزتي وجلالي لأمكنن لك في الجنة حتى ترضى " {[2]} أخرجه أبو نعيم في المعرفة ، قال ابن كثير : حديث غريب جدا ، وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني أو المدني بنحوه .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } المراد بهم اليهود والنصارى ، ومن للبيان { والمشركين } المراد بهم مشركو العرب ، وهم عبدة الأوثان ، وقرأ ابن مسعود { لم يكن المشركون وأهل الكتاب } قال ابن العربي : وهي قراءة في معرض البيان ، لا في معرض التلاوة .

وقرأ أبيّ : ( فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون ) ، وقرأ الأعمش والنخعي ( والمشركون ) بالرفع عطفا على الموصول .

وسمي أهل الكتاب كفارا من إيمانهم بكتابهم ونبيهم ؛ لأنهم عدلوا عن الطريق المستقيم في التوحيد فكفروا بذلك ، فإنه قيل : إن اليهود مجسمة ، وكذلك النصارى لقولهم بالتثليث ، وهذا يقتضي كفر جميع أهل الكتاب قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والظاهر خلافه ، ولذا قال الماتريدي : إن ( من ) تبعيضية ؛ لأن منهم من آمن .

{ منفكين } يقال : فككت الشيء فانفك أي انفصل ، والمعنى : إنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين ما هم عليه { حتى تأتيهم } أي أتتهم { البينة } أي الحجة الواضحة ، وقيل : الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية التي لم يكونوا يبلغونه نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة .

وقيل : منفكين زائلين ، أي : لم تكن مدتهم لتزول حتى تأتيهم البينة ، يقال : ما انفك فلان قائما ، أي ما زال فلان قائما ، وأصل الفك الفتح ، ومنه فك الخلخال ، وقال الأزهري : ليس هو من باب ما انفك وما برح ، وإنما هو من باب انفكاك الشيء عن الشيء وهو انفصاله عنه .

وقيل : منفكين بارحين ، أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة ، وقال ابن كيسان : المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى بعث ، فلما بعث حسدوه وجحوده ، وهو كقوله : { فلما جاءهم مل عرفوا كفروا به } وعلى هذا فيكون معنى قوله { والمشركين } أنهم ما كانوا يسيئون القول في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، حتى بعث فإنهم كانوا يسمونه الأمين ، فلما بعث عادوه وأساؤوا القول فيه .

وقيل : منفكين هالكين ، من قولهم : انفك صلبه ، أي انفصل فلم يلتئم فيهلك ، والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم ، وقيل : إن المشركين هم أهل الكتاب ، فيكون وصفا لهم لأنهم قالوا : المسيح ابن الله ، وعزير ابن الله .

قال أبو السعود : منفكين عما كانوا عليه من الوعد باتباع الحق والإيمان بالرسول المبعوث في آخر الزمان ، والعزم على إنجازه ، وهذا الوعد من أهل الكتاب مما لا ريب فيه ، وأما من المشركين فلعله قد وقع من متأخريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب ، واعتقدوا صحته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم .

وانفكاك الشيء عن الشيء أن يزيله بعد التحامه ، كالعظم إذا انفك من مفصله ، وفيه إشارة إلى كمال وكادة وعدهم ، انتهى ملخصا .

قال الواحدي : ومعنى الآية إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لم ينتهوا عن كفرهم وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن ، فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإيمان ، وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة ، والآية فيمن آمن من الفريقين .

قال : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ، وسلكوا في تفسيرها طرقا لا تفضي بهم إلى الصواب ، والوجه ما أخبرتك فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال .

قال : ويدل على كون البينة محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أنه فسرها ، وأبدل بقوله الآتي { رسول من الله يتلو صحفا مطهرة } .


[1]:ثم بفتح الثاء أي هناك.
[2]:- أين هذا الحديث: من رواه؟ من أخرجه؟ لم نجده في أي كتاب لدينا.