فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البينة

هي ثمان آيات وهي مدنية في قول الجمهور ، وقيل مكية . وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت سورة { لم يكن } بالمدينة . وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت : نزلت سورة لم يكن بمكة . وأخرج أبو نعيم في المعرفة عن إسماعيل بن أبي حكيم المزني ، حدثني فضل ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن الله يستمع قراءة { لم يكن الذين كفروا } فيقول : أبشر عبدي وعزتي وجلالي لأمكننّ لك في الجنة حتى ترضى » قال ابن كثير : حديث غريب جدّاً . وأخرجه أبو موسى المديني عن مطر المزني ، أو المدني بنحوه . وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بن كعب : «إن الله أمرني أن أقرأ عليك { لم يكن الذين كفروا } قال : وسماني لك ؟ قال : نعم فبكى » . وأخرج أحمد وابن قانع في معجم الصحابة والطبراني وابن مردويه عن أبي حية البدري قال : «لما نزلت { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب } إلى آخرها قال جبريل : يا رسول الله إن ربك يأمرك أن تقرئها أبياً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي : إن جبريل أمرني أن أقرئك هذه السورة ، فقال أبي : وقد ذكرت ثم يا رسول الله ؟ قال : نعم ، فبكى » .

المراد ب { الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } اليهود والنصارى ، { و } المراد ب { المشركين } مشركو العرب ، وهم عبدة الأوثان ، و { مُنفَكّينَ } خبر كان ، يقال فككت الشيء فانفك ، أي انفصل ، والمعنى : أنهم لم يكونوا مفارقين لكفرهم ولا منتهين عنه { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } وقيل : الانفكاك بمعنى الانتهاء وبلوغ الغاية : أي لم يكونوا يبلغون نهاية أعمارهم ، فيموتوا حتى تأتيهم البينة . وقيل : منفكين زائلين : أي لم تكن مدّتهم لتزول حتى تأتيهم البينة ، يقال ما انفك فلان قائماً : أي ما زال قائماً ، وأصل الفكّ الفتح . ومنه فكّ الخلخال . وقيل : منفكين بارحين : أي لم يكونوا ليبرحوا أو يفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة . وقال ابن كيسان : المعنى لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث . فلما بعث حسدوه وجحدوه ، وهو كقوله : { فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] وعلى هذا فيكون قوله : { والمشركين } أنهم ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه «الأمين » ، فلما بعث عادوه وأساءوا القول فيه . وقيل : { مُنفَكّينَ } هالكين . من قولهم : انفكّ صلبه : أي انفصل . فلم يلتئم فيهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلاّ بعد قيام الحجة عليهم . وقيل : إن المشركين هم أهل الكتاب ، فيكون وصفاً لم لأنهم قالوا المسيح ابن الله وعزير ابن الله . قال الواحدي : ومعنى الآية : إخبار الله تعالى عن الكفار أنهم لن ينتهوا عن كفرهم ، وشركهم بالله حتى أتاهم محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن ، فبيّن لهم ضلالتهم وجهالتهم ، ودعاهم إلى الإيمان ، وهذا بيان عن النعمة والإنقاذ به من الجهل والضلالة والآية فيمن آمن من الفريقين . قال : وهذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ، وسلكوا في تفسيرها طرقاً لا تفضي بهم إلى الصواب . والوجه ما أخبرتك فاحمد الله إذ أتاك بيانها من غير لبس ولا إشكال . قال : ويدلّ على أن البينة محمد صلى الله عليه وسلم أنه فسرها وأبدل منها فقال : { رَسُولٌ مّنَ الله يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } .

/خ8