مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة البينة

{ بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وما تفرق الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة }

اعلم أن في الآية مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي في كتاب البسيط : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا ، وقد تخبط فيها الكبار من العلماء ، ثم إنه رحمه الله تعالى لم يلخص كيفية الإشكال فيها وأنا أقول : وجه الإشكال أن تقدير الآية : { لم يكن الذين كفروا منفكين حتى تأتيهم البينة } التي هي الرسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر أنهم منفكون عن ماذا لكنه معلوم ، إذ المراد هو الكفر الذي كانوا عليه ، فصار التقدير : لم يكن الذين كفروا منفكين ، عن كفرهم حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول ، ثم إن كلمة حتى لانتهاء الغاية فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول ،

ثم قال بعد ذلك : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } وهذا يقتضي أن كفرهم قد ازداد عند مجيء الرسول عليه السلام ، فحينئذ يحصل بين الآية الأولى والآية الثانية مناقضة في الظاهر ، هذا منتهى الإشكال فيما أظن ( والجواب ) : عنه من وجوه ( أولها ) : وأحسنها الوجه الذي لخصه صاحب الكشاف . وهو أن الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان ، كانوا يقولون قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم : لا ننفك عما نحن عليه من ديننا ، ولا نتركه حتى يبعث النبي الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والإنجيل . وهو محمد عليه السلام ، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولونه ، ثم قال : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ، ثم ما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر إلا مجيء الرسول ، ونظيره في الكلام أن يقول الفقير الفاسق لمن يعظه : لست أمتنع مما أنا فيه من الأفعال القبيحة حتى يرزقني الله الغنى ، فلما رزقه الله الغنى ازداد فسقا فيقول واعظه : لم تكن منفكا عن الفسق حتى توسر ، وما غمست رأسك في الفسق إلا بعد اليسار بذكره ما كان يقوله توبيخا وإلزاما ، وحاصل هذا الجواب يرجع إلى حرف واحد ، وهو أن قوله : { لم يكن الذين كفروا منفكين } عن كفرهم : { حتى تأتيهم البينة } مذكورة حكاية عنهم ، وقوله : { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } هو إخبار عن الواقع ، والمعنى أن الذي وقع كان على خلاف ما ادعوا ( وثانيها ) : أن تقدير الآية ، لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة . وعلى هذا التقدير يزول الإشكال هكذا ذكره القاضي إلا أن تفسير لفظة حتى بهذا ليس من اللغة في شيء ( وثالثها ) : أنا لا نحمل قوله : { منفكين } على الكفر بل على كونهم منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل والمعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن ذكر محمد بالمناقب والفضائل حتى تأتيهم البينة قال ابن عرفة : أي حتى أتتهم ، فاللفظ لفظ المضارع ومعناه الماضي ، وهو كقوله تعالى : { ما تتلوا الشياطين } أي ما تلت ، والمعنى أنهم ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه ، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا فيه ، وقال كل واحد فيه قولا آخر رديا ونظيره قوله تعالى : { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به } والقول المختار في هذه الآية هو الأول ، وفي الآية وجه رابع وهو أنه تعالى حكم على الكفار أنهم ما كانوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول ، وكلمة حتى تقتضي أن يكون الحال بعد ذلك ، بخلاف ما كان قبل ذلك ، والأمر هكذا كان لأن ذلك المجموع ما بقوا على الكفر بل تفرقوا فمنهم من صار مؤمنا ، ومنهم من صار كافرا ، ولما لم يبق حال أولئك الجمع بعد مجيء الرسول كما كان قبل مجيئه ، كفى ذلك في العمل بمدلول لفظ حتى ، وفيها ( وجه خامس ) : وهو أن الكفار كانوا قبل مبعث الرسول منفكين عن التردد في كفرهم بل كانوا جازمين به معتقدين حقيقته ، ثم زال ذلك الجزم بعد مبعث الرسول ، بل بقوا شاكين متحيرين في ذلك الدين وفي سائر الأديان ، ونظيره قوله : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } والمعنى أن الدين الذي كانوا عليه صار كأنه اختلط بلحمهم ودمهم فاليهودي كان جازما في يهوديته وكذا النصراني وعابد الوثن ، فلما بعث محمد عليه الصلاة والسلام : اضطربت الخواطر والأفكار وتشكك كل أحد في دينه ومذهبه ومقالته ، وقوله : { منفكين } مشعر بهذا لأن انفكاك الشيء عن الشيء هو انفصاله عنه ، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد وما انفصلت عن الجزم بصحتها ، ثم إن بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة .

المسألة الثانية : الكفار كانوا جنسين ( أحدهما ) : أهل الكتاب كفرق اليهود والنصارى وكانوا كفارا بإحداثهم في دينهم ما كفروا به كقولهم : { عزير ابن الله } و{ المسيح ابن الله } وتحريفهم كتاب الله ودينه ( والثاني ) : المشركون الذين كانوا لا ينسبون إلى كتاب ، فذكر الله تعالى الجنسين بقوله : { الذين كفروا } على الإجمال ثم أردف ذلك الإجمال بالتفضل ، وهو قوله : { من أهل الكتاب والمشركين } وههنا سؤالان :

السؤال الأول : تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين فهذا يقتضي أن أهل الكتاب منهم كافر ومنهم ليس بكافر ، وهذا حق ، وأن المشركين منهم كافر ومنهم ليس بكافر ، ومعلوم أن هذا ليس بحق ( والجواب ) : من وجوه ( أحدها ) : كلمة من ههنا ليست للتبعيض بل للتبيين كقوله : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } ( وثانيها ) : أن الذين كفروا بمحمد عليه الصلاة والسلام ، بعضهم من أهل الكتاب ، وبعضهم من المشركين ، فإدخال كلمة من لهذا السبب ( وثالثها ) : أن يكون قوله : { والمشركين } أيضا وصفا لأهل الكتاب ، وذلك لأن النصارى مثلثة واليهود عامتهم مشبهة ، وهذا كله شرك ، وقد يقول القائل : جاءني العقلاء والظرفاء يريد بذلك قوما بأعيانهم يصفهم بالأمرين .

وقال تعالى : { الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله } وهذا وصف لطائفة واحدة ، وفي القرآن من هذا الباب كثير ، وهو أن ينعت قوم بنعوت شتى ، يعطف بعضها على بعض بواو العطف ويكون الكل وصفا لموصوف واحد .

السؤال الثاني : المجوس هل يدخلون في أهل الكتاب ؟ ( قلنا ) : ذكر بعض العلماء أنهم داخلون في أهل الكتاب لقوله عليه السلام : «سنوليهم سنة أهل الكتاب » وأنكره الآخرون قال : لأنه تعالى إنما ذكر من الكفار من كان في بلاد العرب ، وهم اليهود والنصارى ، قال تعالى حكاية عنهم : { أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } والطائفتان هم اليهود والنصارى .

السؤال الثالث : ما الفائدة في تقديم أهل الكتاب في الكفر على المشركين ؟ حيث قال : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } ؟ ( الجواب ) : أن الواو لا تفيد الترتيب ، ومع هذا ففيه فوائد ( أحدها ) : أن السورة مدنية فكأن أهل الكتاب هم المقصودون بالذكر ( وثانيها ) : أنهم كانوا علماء بالكتب فكانت قدرتهم على معرفة صدق محمد أتم ، فكان إصرارهم على الكفر أقبح ( وثالثها ) : أنهم لكونهم علماء يقتدي غيرهم بهم فكان كفرهم أصلا لكفر غيرهم ، فلهذا قدموا في الذكر ( ورابعها ) : أنهم لكونهم علماء أشرف من غيرهم فقدموا في الذكر .

السؤال الرابع : لم قال { من أهل الكتاب } ، ولم يقل من اليهود والنصارى ؟ ( الجواب ) : لأن قوله : { من أهل الكتاب } يدل على كونهم علماء ، وذلك يقتضي إما مزيد تعظيم ، فلا جرم ذكروا بهذا اللقب دون اليهود والنصارى ، أو لأن كونه عالما يقتضي مزيد قبح في كفره ، فذكروا بهذا الوصف تنبيها على تلك الزيادة من العقاب .

المسألة الثانية : هذه الآية فيها أحكام تتعلق بالشرع ( أحدها ) : أنه تعالى فسر قوله : { الذين كفروا } بأهل الكتاب وبالمشركين ، فهذا يقتضي كون الكل واحدا في الكفر ، فمن ذلك قال العلماء : الكفر كله ملة واحدة ، فالمشرك يرث اليهودي وبالعكس ( والثاني ) : أن العطف أوجب المغايرة ، فلذلك نقول : الذمي ليس بمشرك ، وقال عليه السلام : «غيرنا كحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم » فأثبت التفرقة بين الكتابي والمشرك ( الثالث ) : نبه بذكر أهل الكتاب أنه لا يجوز الاغترار بأهل العلم إذ قد حدث في أهل القرآن مثل ما حدث في الأمم الماضية .

المسألة الرابعة : قال القفال : الانفكاك هو انفراج الشيء عن الشيء وأصله من الفك وهو الفتح والزوال ، ومنه فككت الكتاب إذا أزلت ختمه ففتحته ، ومنه فكاك الرهن وهو زوال الإنغلاق الذي كان عليه ألا ترى أن ضد قوله : انفك الرهن ، ومنه فكاك الأسير وفكه ، فثبت أن انفكاك الشيء عن الشيء هو أن يزيله بعد التحامه به ، كالعظم إذا انفك من مفصله ، والمعنى أنهم متشبثون بدينهم تشبثا قويا لا يزيلونه إلا عند مجيء البينة .

1