اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول يحيى بن سلام ، ومدنية في قول الجمهور ، وهي ثماني آيات ، وأربع وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وتسعون حرفا .

لقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين } ، هذه قراءة العامة ، وخط المصحف . وقرأ عبد الله بن مسعود{[60593]} - رضي الله عنه - : «لَمْ يكُن المُشْركُونَ وأهْلُ الكِتابِ منفكين » وهذه قراءة على التفسير .

قال ابن العربي : «وهي جائزة في معرض البيان ، لا في معرض التلاوة ، فقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في رواية الصحيح «فَطلِّقُوهُنَّ لقُبُلِ عدَّتهِنَّ » وهو تفسيرٌ ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف » .

وقرئ : «والمُشرِكُون »{[60594]} بالواو نسقاً على «الَّذينَ كَفَرُوا » .

قوله : { مُنفَكِّينَ } اسم فاعل من «انفكَ » ، وهي هنا التامة ، فلذلك لم تحتج إلى خبر .

وزعم بعضهم : أنها هنا ناقصة ، وأن الخبر مقدر ، تقديره : منفكّين عارفين محمداً صلى الله عليه وسلم .

قال أبو حيان{[60595]} : وحذف خبر «كَانَ » لا يجوز اقتصاراً ، ولا اختصاراً .

وجعلوا قوله : [ الكامل ]

5263ب- . . . *** يَبْغِي جِوَاركَ حَيْثُ لَيْسَ مُجِيرُ{[60596]}

أي : في الدنيا ، ضرورة ، ووجه من منع من ذلك أنه قال : صار الخبر مطلوباً من جهتين : من جهة كونه مخبراً به ، فهو أحد جزئي الإسناد ، ومن حيث كونه منصوباً بالفعل ، وهذا منتقض بمفعولي ظن ، فإن كلاًّ منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان ، أو أحدهما اختصاراً ، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره .

وقوله : { حتى تَأْتِيَهُمُ } متعلق ب «لَمْ يَكُنْ » أو ب «مُنفكِّينَ » .

فصل

قال الواحديُّ : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظماً وتفسيراً ، ولم يبين كيفية الإشكال ، قال ابن الخطيب{[60597]} : ووجه الإشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه ، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم ، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول ، فانفكوا عنه لأن «حتَّى » لانتهاء الغاية ، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن قوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول - عليه الصلاة والسلام - فحينئذ يحصل التناقض ، والجواب من وجوه :

أحدها : وهو أحسنها ، ما لخصه الزمخشريُّ{[60598]} : أن الأول حكاية ما كانوا يقولونه من أنه صلى الله عليه وسلم الموعود به لا ننفك عما نحن عليه من ديننا .

والثاني : إخبار عن الواقع ، يعني أنهم كانوا يعدون الاتِّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافاً لما ادعوا .

وثالثها : المعنى : لم يكونوا منفكين عن كفرهم ، وإن جاءتهم بينة ، قاله القاضي . إلا أن جعل «حتى » بمعنى «أن » بعيد في اللغة .

ورابعها : المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم بالمناقب والفضائل ، حتى أتتهم البينة ، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين } [ البقرة : 102 ] ، أي ما تلت أي : ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه ، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا ، ونظيره { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] .

وخامسها : أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة ، فلما جاءتهم البينة تفرقوا ، وتكفي هذه المغايرة .

وسادسها : هي كقوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيين } [ البقرة : 213 ] الآية ، أي : كان كل منهم جازماً بمذهبه ودينه ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم شكوا في أديانهم ، لأن قوله تعالى { مُنفَكِّينَ } مشعر بهذا ؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه ، فمعناه أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد ، وما انفصلت عن الجزم بصحتها ، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة .

فصل في المراد بأهل الكتاب هنا

قال ابن عباس : أهل الكتاب الذين كانوا ب «يثرب » ، وهم : قريظة ، والنضير ، وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا ب «مكة » وما حولها ، و «المدينة » ، وهم مشركو قريش ، وقوله تعالى : { مُنفَكِّينَ } أي : منتهين من كفرهم { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم{[60599]} .

وقيل : لانتهاء بلوغ الغاية ، أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة . وقيل : منفكين زائلين إذ لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا ، أي ما زلت ، وما انفك فلان قائماً ، أي : ما زال قائماً .

وأصل الفك للفتح ، ومنه : فك الكتاب ، وفك الخلخال .

وقيل : «مُنفكِّينَ » ، بارحين ، أي : لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا حتى تأتيهم البينة .

وقال ابن كيسان : أي : لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى الله عليه وسلم - ويسمونه الأمين في كتابهم - حتى بعث ، فلما بعث صلى الله عليه وسلم حسدوه ، وجحدوه ، وهو قوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ البينة : 4 ] ، وعلى هذا فقوله تعالى : { والمشركين } أي : ما كانوا يسيئون القول في محمد صلى الله عليه وسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهم صلى الله عليه وسلم فحينئذ عادوه .

وقال بعض اللغويين : «مُنفكِّينَ » ، أي : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذّبين ، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب .

فصل في المراد بالمشركين

قال قوم : المراد بالمشركين من أهل الكتاب ، فمن اليهود من قال : عزير ابن الله ، ومن النصارى من قال : عيسى هو الله . ومنهم من قال : هو ابنه . ومنهم من قال : هو ثالث ثلاثة ، وكذبوا فيما قالوا عن الله تعالى ، وأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له ، ولا ولد له ، ولا مثل ولا ضد له ، ولا ند له ، ولا شبيه له ، ولا صاحبة له ، ولا زوجة له ، ولا وزير له ، ولا حاجب له ، ولا بواب له ، وهو سبحانه وتعالى كما قال في كتابه المنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص 1-4 ] .

وقيل : المشركون وصف لأهل الكتاب أيضاً ، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم ، وتركوا التوحيد ، فالنصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبهة ، والكل شرك ، وهو كقولك : جاءني العقلاء والظرفاء ، وأنت تريد أقواماً بعينهم تصفهم بالأمرين ، قال تعالى : { الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عَنِ المنكر والحافظون لِحُدُودِ الله } [ التوبة : 112 ] ، وهذا وصف للطائفة الواحدة ، فالمعنى على هنا من أهل الكتاب المشركين .

[ وقيل : أهل الكتاب كانوا مؤمنين ، ثم كفروا بعد أنبيئاهم ، والمشركون ولدوا على الفطرة ، ثم كفروا حين بلغوا .

وقيل : الكفر هنا هو الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، أي : لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم - وهم الذين ليس لهم كتاب - منفكين .

قال القشيريُّ : وفيه بعد ، لأن الظاهر من قوله تعالى : { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة رَسُولٌ مِّنَ الله } أنّ هذا الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم .

فيبعد أن يقال : لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى الله عليه وسلم منفكين ، حتى يأتيهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلا أن يقال : أراد لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى الله عليه وسلم وقد كانوا من قبل معظمين له ، منتهين عن هذا الكفر ، إلى أن يبعث الله تعالى لهم محمداً صلى الله عليه وسلم ، ويبين لهم الآيات ، فحينئذٍ يؤمن قوم ]{[60600]} .

وقرأ الأعمش وإبراهيم{[60601]} : «والمُشْرِكُونَ » رفعاً عطفاً على «الَّذِينَ كَفرُوا » .

قال القرطبيُّ{[60602]} : «والقراءة الأولى أبين ؛ لأن الرفع يصير فيه الصنفان كأنهم من غير أهل الكتاب » .

وفي حرف أبيّ{[60603]} : «فما كان الذين من أهل الكتاب والمشركون منفكين » .

قال ابن الخطيب : فإن قيل : لم قال الذين كفروا ، بلفظ الفعل ، وذكر المشركين باسم الفاعل ؟ فالجوابُ : أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر ؛ لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ، وبمبعث محمد صلى الله عليه وسلم بخلاف المشركين ، فإنهم ولدوا على عبادةِ الأوثان ، وذلك يدل على الثبات على الكفر .

قوله : { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } .

قيل : البينة ، محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه في نفسه بينة وحُجَّة ، ولذلك سمَّاه الله - تعالى - سراجاً منيراً .


[60593]:ينظر: المحرر الوجيز 5/507، والقرطبي 20/95.
[60594]:ينظر: المحرر الوجيز 5/507، والبحر المحيط 8/494، والدر المصون 6/551.
[60595]:ينظر: البحر المحيط 8/495.
[60596]:تقدم.
[60597]:الفخر الرازي 32/37.
[60598]:ينظر: الكشاف 4/4/782.
[60599]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (20/95).
[60600]:سقط من: ب.
[60601]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 20/96.
[60602]:ينظر السابق.
[60603]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 20/96.