تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{لَمۡ يَكُنِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ وَٱلۡمُشۡرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأۡتِيَهُمُ ٱلۡبَيِّنَةُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة البينة

أهداف سورة البينة

( سورة البينة مدنية ، وآياتها 8 آيات ، نزلت بعد سورة الطلاق )

وتعرض السورة أربع حقائق تاريخية وإيمانية :

الحقيقة الأولى : هي أن بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهل الكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف ، وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة .

قال تعالى : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة* رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة* فيها كتب قيّمة . ( البينة : 1-3 ) .

الحقيقة الثانية : إن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهل ، ولا عن غموض فيه ، وإنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ، وجاءتهم البينة : وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة . ( البينة : 4 ) .

الحقيقة الثالثة : إن الدّين في أصله واحد ، وقواعده بسيطة واضحة ، لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة . ( البينة : 5 ) .

الحقيقة الرابعة : إن الذين كفروا من بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية ، وإن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية ، ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بيّنا .

مع آيات السورة

1-لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة .

كانت الأرض فهي حاجة ماسة إلى رسالة جديدة ، كان الفساد قد عمّ أرجاءها كلها ، بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديدة ، وحركة جديدة ، وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا ، سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرّفوها ، أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها .

وما كانوا لينفكوا ويتحلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته واضحة ، فارقة فاصلة .

2- رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة . أي : محمد صلى الله عليه وسلم –وهو بدل من البينة- يقرأ عليهم من صفحات كتابه المطهرة ، وآياته المقدسة ، ما يشتمل على المضمون الصحيح لكتبهم المنزلة على أنبيائهم ، موسى وعيسى وغيرهما ، عليهم جميعا الصلاة والسلام .

3- فيها كتب قيّمة . يطلق الكتاب على الموضوع ، كما تقول : كتاب الطهارة ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة… أي : يشمل القرآن على موضوعات وحقائق قيمة ، تحتاج إليها البشرية ، ولا تصلح إلا بها .

لقد كان الفساد قد استشرى في الأرض قبل رسالة محمدا صلى الله عليه وسلم ، وطمست معالم الحق ، وبهتت حقائق الأديان ، وانسحب رجال الدين من ميدان الحياة ، واستبد الحكام والملوك ، وعظمت نكايات اليهود بالنصارى ، واشتد تدبير الكيد من النصارى لليهود ، واختلف النصارى حول طبيعة المسيح ، وعذّب الحكام طوائف المخالفين .

4-وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان ، وإنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .

5-وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدّين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة .

وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق : عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وذلك دين القيّمة . وهذا هو الدين الذي جاء في الكتب القيمة ، ( وقصارى ما سلف ، أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه ، مع أنهم ما أمروا إلا أن يعبدوا الله ، ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم ، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا ، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف )i .

6- إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البريّة .

لقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض ، لتردّ الناس إلى الإصلاح ، فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة ، الشاملة الكاملة ، فقد تحدد الموقف أمام الجميع بصفة قاطعة . فمن كفر بهذه الرسالة أو أشرك بالله فهو في نار جهنم يصلى نارها ، وهو من شرار الخلق ، جزاء إعراضه عن دعوة الحق ، وعن رسالة الله .

7- إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البريّة . أما من اهتدى قلبه للإيمان ، وكان إيمانه عن يقين وصدق ، فأتبع الإيمان بالأعمال الصالحات ، من عبادة وخلق ، وعمل وتعامل ، والتزام بشريعة الله والحفاظ عليها ، أولئك هم خير البريّة . وهم صفوة الله من خلقه ، حيث منحهم الهدى ، ويسر لهم العمل بأحكام هذا الدين .

قال تعالى : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده… ( الأنعام : 90 ) .

8- جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه . لقد أحسن الله جزاءهم في جنات إقامة دائمة ، تجري من تحتها الأنهار ، في جمال ونعمة ولذة دائمة ، وأسمى من ذلك سعادتهم برضا الله عنهم ، ومحبته لهم ، ثم اطمئنانهم ورضاهم العميق عن ربهم ، وثوابه ونعيمه . وذلك كله متوقف على خشية الله ، والخوف منه والالتزام بأمره .

ملخص السورة

لما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، تغير حال اليهود والنصارى والمشركين ، فمنهم من آمن به ، ومنهم من تردد في صحة الدين ، ومنهم من عاند وتكبر ، مع أن الله تعالى ما أمرهم إلا ليعبدوه مخلصين له الدين ، ولكن الفساد كان قد استشرى بين أرباب الديانات السابقة ، وكانت البينة الواضحة والنور الهادي هو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم . وقد أوضح الله تعالى أن من كفر به سيصلى نار جهنم ، وأن من آمن به سيتمتع برضوان الله في جنات النعيم .

من فضائل السورة

أخرج أحمد ، والبخاري ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبيّ بن كعب : ( إن الله أمرني أن أقرأ عليك : لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب… ) قال : وسمّاني لك يا رسول الله ؟ قال : ( نعم ) . قال : فبكى أبيّii .

أحوال الناس قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمان الرحيم

{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة 1 رسول من الله يتلوا صحفا مطهّرة 2 فيها كتب قيّمة 3 وما تفرّق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البيّنة 4 وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيّمة 5 }

المفردات :

من أهل الكتاب : اليهود والنصارى .

المشركين : عبدة الأصنام .

منفكين : منتهين عما هم عليه .

البينة : الحجة الواضحة ، أو محمد الموعود به في كتبهم .

التفسير :

1

التفسير :

1- لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكّين حتى تأتيهم البيّنة .

أي : كان الفساد قد عمّ أرجاء الأرض ، وأقصى الدين عن الدنيا ، وانكمش رجال الدين في الصوامع والمعابد ، وكان الكفر قد تطرق إلى العقائد ، بسبب تحريف الكتب السماوية ، وحذف أجزاء منها أو إضافة أشياء إليها ليست منها ، وما كان أهل الكتاب والمشركون لينفكّوا ويتحوّلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه ، إلا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بيّنة واضحة فارقة فاصلة .