التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيۡكُم مِّنۢ بَعۡدِ ٱلۡغَمِّ أَمَنَةٗ نُّعَاسٗا يَغۡشَىٰ طَآئِفَةٗ مِّنكُمۡۖ وَطَآئِفَةٞ قَدۡ أَهَمَّتۡهُمۡ أَنفُسُهُمۡ يَظُنُّونَ بِٱللَّهِ غَيۡرَ ٱلۡحَقِّ ظَنَّ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِۖ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ مِن شَيۡءٖۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡأَمۡرَ كُلَّهُۥ لِلَّهِۗ يُخۡفُونَ فِيٓ أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبۡدُونَ لَكَۖ يَقُولُونَ لَوۡ كَانَ لَنَا مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٞ مَّا قُتِلۡنَا هَٰهُنَاۗ قُل لَّوۡ كُنتُمۡ فِي بُيُوتِكُمۡ لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡقَتۡلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمۡۖ وَلِيَبۡتَلِيَ ٱللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمۡ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمۡۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} (154)

قوله تعالى : ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إنا الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم للقتل إلى مضاجعهم وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) .

ذلك إخبار من الله عن امتنانه على عباده فيما أنزله عليهم من الأمن والنعاس بعد ما غشيهم من الغم ما غشيهم . وفي مثل هذه الحال من الكرب والهم تهفو نفس المغتم إلى شيء من الراحة والسكينة . وإنما يتجلى ذلك تماما في نعيم الأمن يستظل به الإنسان المكروب مع غمرة ظليلة من النعاس الرخي يغشاه فيستشعره بذلك نداوة الطمأنينة وسكينة الأعصاب . فقال سبحانه : ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ) الأمنة بمعنى الأمن والسكينة . ونعاسا بدل من أمنةً . وقيل مفعول لأجله . وفيما امتن الله به على المؤمنين من الأمن والنعاس بعد ما غشيهم الخوف والقلق والحزن- في ذلك روى البخاري عن أبي طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه{[617]} . والمراد بالطائفة هذه المؤمنون الذين خرجوا للقتال مع النبي صلى الله عليه و سلم قاصدين أن تعلو راية الإسلام مبتغين بذلك مرضاة الله ، أولئك هم أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل على الله .

قوله : ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) وهذه الطائفة الثانية هم المنافقون . وهم عبد الله بن أبي ومعتب بن قشير وأصحابهما . فكان هؤلاء قد خرجوا طمعا في الغنيمة وخشية من المؤمنين ، فهؤلاء قد اشتد جزعهم وخوفهم فلم يغشهم النعاس وجعلوا يتأسفون على الحضور ويقولون الأقاويل وينشرون الأراجيف ، وأهمتهم أنفسهم ، يعني حملتهم على الهمّ . فكان همهم خلاص أنفسهم . أهمني الأمر أي اقلقني . وهمني الشيء أي كان من همي وقصدي . والمقصود أن هؤلاء المرجفين المضطرين لم يعبأوا بغير أنفسهم . وهم لفرط فزعهم وهلعهم تملكهم الذعر فذهلوا عن كل شيء سوى أنفسهم .

قوله : ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) الجملة في محل نصب حال . والمقصود أن هؤلاء المنافقين أهل جبن وخور وإرجاف . فقد اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا في أحد لن تقوم للإسلام بعد ذلك قائمة ، وإن المسلمين صائرون إلى الإبادة . إلى غير ذلك من الظنون والأراجيف الباطلة .

وقوله : ( ظن الجاهلية ) بدل من غير الحق . وهو الظن الذي دأب عليه أهل الجاهلية ، وهو ظنهم أن أمر النبي صلى الله عليه و سلم باطل وأن دينه لن يكتب له النصر .

قوله : ( يقولون هل لنا من الأمر شيء ) ذلك إخبار عما حكاه المنافقون بعد الذي أصاب المسلمين في أحد . والاستفهام هنا للإنكار والجحد . ومعناه : ما لنا شيء من أمر الخروج ، وإنما خرجنا كرها فرد الله عليهم ذلك بقوله : ( قل إن الأمر كله لله ) أي أن القدر كله خيره وشره بيد الله فينصر من يشاء ويخذل من يشاء . وقوله : ( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) أي يضمرون التكذيب والجحد ولا يظهرونه لك . وفسر ذلك بقوله : ( يقولولن لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) أي لو كان لنا اختيار أو رأي عند محمد لما برح المدينة كما كان رأي عبد الله بن أبي وغيره . ولما غلبنا فقتل منا من قتل . وفي هذا الصدد ذكر عن عبد الله بن الزبير أن أباه الزبير قال : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره . قال : فوالله إني لأسمع قول معتب بن فشير ما أسمعه إلا كالحلم يقول : ( لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههانا ) .

وقوله : ( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) أي لو كنتم جالسين في بيوتكم ولم تشهدوا القتال مع المؤمنين فلسوف يخرج الذين كتب عليهم القتل للموضع الذي كتب عليهم فيه مصرعهم ؛ ذلك أن الحذر لا يغني من القدر وأن التدبير لا يدفع التقدير فالذين قدر الله عليهم القتل لا مناص لهم من قدر الله المحتوم .

قوله : ( وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ) الابتلاء معناه الاختبار والإمتحان . وجملة التعليل ( وليبتلى الله ) على لفعل محذوف . أي فعل ذلك مما حصل لكم في أحد ليمتحن ما في صدوركم فيظهر سرائر المنافقين ، ويكشف عن مكنون قلوبهم من الغش والمرض والنفاق فيطلع عليها المؤمنين . وكذلك ( ليمحص ما في قلوبكم ) أي لتطهركم من الذنوب والمعاصي . أو لتطهر قلوبكم من الوساوس والشبهات .

قوله : ( والله عليم بذات الصدور ) أي أن الله يعلم بما يستكن في ضمائر العباد من خير وشر أو من إيمان وكفر . فإنه جل جلاله لا يخفى عليه شيء من أمور الخليقة ويستوي في ذلك عنده ما كان خافيا أو معلنا .


[617]:- تفسير ابن كثير جـ 1 ص 418.