التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

استئناف ابتدائي للاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية . وإنما أوقع هنا لأن أقوى شيء بَعثَ المشركين على ادعاء أن ما جاء به النبي سحر هو أنه أبطل الشركاء لله في الإلهية ونفاها عن آلهتهم التي أشركوا بها فقالوا : { أجعل الآلهةَ إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب } [ ص : 5 ] فلا جرم أن أعقب إنكار إحالتهم ذلك بإقامة الدليل على ثبوته .

والخطاب للمشركين ، ولذلك أكد الخبر بحرف التوكيد ، وأوقع عقبه { أفلا تذكرون } [ يونس : 2 ] ، فهو التفات من الغيبة في قوله : { أكَانَ للناس عجباً وقوله قال الكافرون } . وقد مضى القول في نظير صدر هذه الآية في سورة الأعراف إلى قوله : { ثم استوى على العرش } .

وقوله : { الله } خبر { إن } ، كما دل عليه قوله بعده : { ذالكم الله ربكم فاعبدوه } .

وجملة { يدبر الأمر } في موضع الحال من اسم الجلالة ، أو خبر ثان عن { ربكم } .

والتدبير : النظر في عواقب المقدرات وعوائقها لقصد إيقاعها تامة فيما تقصد له محمودةَ العاقبة .

والغاية من التدبير الإيجاد والعملُ على وفق ما دُبر . وتدبير الله الأمور عبارة عن تمام العلم بما يخلقها عليه ، لأن لفظ التدبير هو أوفى الألفاظ اللغوية بتقريب إتقان الخلق .

والأمر : جنس يعم جميع الشؤون والأحوال في العالم . وتقدم في قوله { وقلَّبوا لك الأمور } في سورة [ براءة : 48 ] .

وفي إجراء هذه الصفات على الله تعالى تعريض بالرد على المشركين إذ جعلوا لأنفسهم آلهة لا تخلق ولا تعلم ؛ كما قال تعالى : { لا يخلُقون شيئاً وهم يخلقون } [ النحل : 20 ] . ولذلك حسن وقع جملة { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } عقب جملة : { الذي خلق } بتمامها ، لأن المشركين جعلوا آلهتهم شفعاء فإذا أنذروا بغضب الله يقولون : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ، أي حُماتنا من غضبه . فبعد أن وُصف الإله الحق بما هو منتف عن آلهتهم نُفِي عن آلهتهم وصْف الشفاعة عند الله وحماية المغضوب عليهم منه .

وأكد النفي ب { من } التي تقع بعد حرف النفي لتأكيد النفي وانتفاء الوصف عن جميع أفراد الجنس الذي دخلت ( من ) على اسمه بحيث لم تبق لآلهتهم خصوصية .

وزيادة { إلاّ مِنْ بعد إذنه } احتراس لإثبات شفاعة محمَّد صلى الله عليه وسلم بإذن الله ، قال تعالى : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] . والمقصود من ذلك نفي الشفاعة لآلهتهم من حيث إنهم شركاء لله في الإلهية ، فشفاعتهم عنده نافذة كشفاعة الند عند نده . والشفاعة تقدمت عند قوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } في سورة [ البقرة : 48 ] . وكذلك الشفيع تقدم عند قوله : { فهل لنا من شفعاء } في سورة [ الأعراف : 53 ] .

وموقع جملة : { ما من شفيع } مثل موقع جمله : { يدبر الأمر } .

وجملة : { ذلكم الله ربكم } ابتدائية فذلكةٌ للجمل التي قبلها ونتيجة لها ، وهي معترضة بين تلك الجمل وبين الجملة المفرعَة عليها ، وهي جملة : { فاعبدوه } ، وتأكيد لمضمون الجملة الأصلية وهي جملة : { إن ربكم الله } .

والإتيان في صدرها باسم الإشارة لتمييزه أكمل تمييز ، لأنهم امتروا في صفة الإلهية وضلوا فيها ضلالاً مبيناً ، فكانوا أحرياء بالإيقاظ بطريق اسم الإشارة ، وللتنبيه على أن المشار إليه حقيق بما سيذكر بعد اسم الإشارة من حيث إنه اتصف بتلك الأوصاف التي أشير إليه من أجلها ، فإن خالق العوالم بغاية الإتقان والمقدرة ومالك أمرها ومدبر شؤونها والمتصرفَ المطلق مستحقٌ للعبادة نظير الإشارة في قوله : { أولئك على هدى من ربهم } [ البقرة : 5 ] بعد قوله : { للمتقين الذين يؤمنون بالغيب إلى قوله : هم يوقنون } [ البقرة : 2 4 ] .

وفُرّع على كونه ربهم أن أمروا بعبادته ، والمفرَّعُ هو المقصود من الجملة وما قبله مؤكد لجملة : { إن ربكم الله } تأكيداً بفذلكة وتحصيل . والتقديرُ : إن ربكم الله إلى قوله : { فاعبدوه } ، كقوله : { قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحُوا } [ يونس : 58 ] إذ وقع قوله ( فبذلك ) تأكيداً لجملة بفضل الله وبرحمته . وأوقع بعده الفرع وهو ( فليفرحوا ) . والتقدير : قل بفضل الله وبرحمته فليفرحوا بذلك .

والمقصود من العبادة العبادة الحق التي لا يشرك معه فيها غيره ، بقرينة تفريع الأمر بها على الصفات المنفرد بها الله دون معبوداتهم .

وجملة : { أفلا تذَّكَّرون } ابتدائية للتقريع . وهو غرض جديد ، فلذلك لم تعطف ، فالاستفهام إنكار لانتفاء تذكرهم إذْ أشركوا معه غيره ولم يتذكروا في أنه المنفرد بخلق العوالم وبملكها وبتدبير أحوالها .

والتذكُّر : التأمل . وهو بهذه الصيغة لا يطلق إلا على ذكر العقل لمعقولاته ، أي حركته في معلوماته ، فهو قريب من التفكر ؛ إلا أن التذكر لما كان مشتقاً من مادة الذكر التي هي في الأصل جريَان اللفظ على اللسان ، والتي يعبر بها أيضاً عن خطور المعلوم في الذهن بعد سهوه وغيبته عنه كان مشعراً بأنه حركة الذهن في معلومات متقررة فيه من قبل .

فلذلك أوثر هنا دون { لعلكم تتفكرون } [ البقرة : 219 ] للإشارة إلى أن الاستدلال على وحدانية الله تعالى قد تقررَ في النفوس بالفطرة ، وبما تقدم لهم من الدعوة والأدلة فيكفي في الاستدلال مجرد إخطار هذه الأدلة في البال .