السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

{ إنّ ربكم } الموجد لكم والمربي والمحسن هو { الله الذي خلق } أي : قدّر وأوجد { السماوات والأرض } على اتساعهما ، وكثرة ما فيهما من المنافع { في ستة أيام } من أيام الدنيا ، أي : في قدرها ؛ لأنه لم يكن ثمّ شمس ، ولو شاء لخلقهما في لمحة ، والعدول عنه لتعليم خلقه التثبت . فإن قيل : إنّ اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النهار وحده . فما المراد ؟ أجيب : بأنّ الغالب في اللغة أنه مراد باليوم اليومَ بليلته ، ولما أوجد سبحانه وتعالى هذا الخلق الكبير المتباعد الأقطار ، الواسع الانتشار ، المفتقر إلى عظيم التدبير ، ولطيف التصريف والتقدير ؛ عبّر سبحانه وتعالى عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي : { ثم استوى } أي : عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك . { على العرش } المتقدّم وصفه في الأعراف بالعظمة ، وليست ثم للترتيب ، بل كناية عن علوِّ الرتبة ، وبعد منازلها ، ثم بيّن ذلك الاستواء بقوله : { يدبر الأمر } كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور ؛ لأنَّ التدبير أعدل أحوال الملك ، فالاستواء كناية عنه . وقوله تعالى : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } تقرير لعظمته جل وعلا ، وردّ على من زعم أنَّ آلهتهم تشفع لهم عند الله . وفيه إثبات الشفاعة لمن أذن له { ذلكم الله } أي : الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية والربوبية { ربكم } أي : الذي يستحق العبادة منكم . { فاعبدوه } أي : وحّدوه ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان ، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع ، فإنَّ عبادتكم مع التشريك ليست عبادة ، ولولا فضله لم يكن لمن زلّ أدنى زلة طاعة ، وقوله تعالى :{ أفلا تذكرون } قرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال ، والباقون بالتشديد بإدغام التاء في الأصل في الذال ، أي : أفلا تتفكرون أدنى تفكر فينبئكم عن أنه المستحق للربوبية ، والعبادة لا ما تعبدونه .