{ إِنَّ رَبَّكُمُ } كلامٌ مستأنفٌ سيق لإظهار بطلانِ تعجُّبهم المذكورِ وما بنَوا عليه من المقالة الباطلةِ غِبَّ الإشارةِ إليه بالإنكار والتعجيبِ وحُقّق فيه حقيةُ ما تعجبوا منه وصِحّةُ ما أنكروه بالتنبيه الإجمالي على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلقِ والتقديرِ وأحوالِ التكوينِ والتدبيرِ ، ويُرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكيرٍ لاعترافهم به من غير نكيرٍ لقوله تعالى : { قُلْ مَن ربُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } [ المؤمنون : 86- 87 ] وقوله تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم منَ السماء والأرض } إلى قوله تعالى : { وَمَن يُدَبّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ الله } [ يونس : 31 ] أي إن ربكم ومالكَ أمرِكم الذي تتعجبون من أن يرسِل إليكم رجلاً منكم بالإنذار والتبشيرِ وتُعدّون ما أوحيَ إليه من الكتاب الحكيم سحراً هو { الله الذي خَلَقَ السموات والأرض } وما فيهما من أصول الكائنات { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي في ستة أوقاتٍ أو في مقدار ستةِ أيام معهودةٍ فإن نفسَ اليوم الذي هو عبارةٌ عن زمان كونِ الشمس فوق الأرض مما لا يتصور تحققُه حين لا أرضَ ولا سماء ، وفي خلقها مدرّجاً مع القدرة التامةِ على إبداعها دفعةً دليلٌ على الاختيار واعتبارٌ للنظّار وحثٌّ لهم على التأنيّ في الأحوال والأطوار ، وأما تخصيصُ ذلك بالعدد المعينِ فأمرٌ قد استأثر بعلم ما يستدعيه علامُ الغيوب جلت قدرتُه ودقتْ حكمتُه وإيثارُ صيغةِ الجمعِ في السموات لما هو المشهورُ من الإيذان بأنها أجرامٌ مختلفةُ الطباعِ متباينةُ الآثارِ والأحكام { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } العرشُ هو الجسمُ المحيطُ بسائر الأجسامِ سمِّي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملِك فإن الأوامرَ والتدابير منه تنزل ، وقيل : هو المُلك ومعنى استوائِه سبحانه عليه استيلاؤُه عليه أو استواءُ أمرِه . وعن أصحابنا أن الاستواءَ على العرش صفةٌ له سبحانه بلا كيف . والمعنى أنه سبحانه استوى على العرش على الوجه الذي عناه منزَّهاً عن التمكن والاستقرار ، وهذا بيانٌ لجلالة مُلكه وسلطانِه بعد زمان عظمةِ شأنِه وسَعة قدرتِه بما مر من خلق هاتيك الأجرامِ العظام .
{ يُدَبّرُ الأمر } التدبيرُ النظرُ في أدبار الأمورِ وعواقبِها لتقعَ على الوجه المحمودِ والمرادُ هاهنا التقديرُ على الوجه الأتمِّ الأكملِ والمرادُ بالأمر أمرُ ملكوتِ السمواتِ والأرضِ والعرشِ وغيرُ ذلك من الجزيئات الحادثةِ شيئاً فشيئاً على أطوار شتى وأنحاء لا تكاد تحصى من المناسبات والمبايناتِ في الذوات والصفاتِ والأزمنةِ والأوقاتِ أي يقدّر ما ذُكر من أمر الكائناتِ الذي ما تعجبوا منه من أمر البعث والوحي فردٌ من جملته وشُعبةٌ من دوحته ، ويهيئ أسبابَ كل منها حدوثاً وبقاءً في أوقاتها المعينةِ ويرتب مصالحَها على الوجه الفائقِ والنمطِ اللائقِ حسبما تقتضيه الحكمةُ وتستدعيه المصلحةُ ، والجملةُ في محل النصبِ على أنها حالٌ من ضمير استوى وقد جوز كونُها خبراً ثانياً لإن أو مستأنفةٌ لا محل لها من الإعراب مبنيةٌ على سؤال نشأ من ذكر الاستواءِ على العرش المنبىءِ عن إجراء أحكامِ المُلك . وعلى كل حال فإيثارُ صيغةِ المضارعِ للدلالة على تجدد التدبيرِ واستمرارِه وقوله عز وجل : { مَا مِن شَفِيعٍ } بيانٌ لاستبداده سبحانه في التقدير والتدبيرِ ونفيٌ للشفاعة على أبلغ الوجوهِ فإن نفيَ جميعِ أفرادِ الشفيعِ بمن الاستغراقية يستلزم نفيَ الشفاعةِ على أتم الوجوه كما في قوله تعالى : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله } [ هود ، الآية 43 ] وهذا بعد قوله تعالى : { يُدَبّرُ الأمر } جارٍ مجرى قوله تعالى : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } عقيب قوله تعالى : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شيء } [ المؤمنون ، الآية 88 ] وقوله تعالى { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } استثناءٌ مفرغٌ من أعم الأوقاتِ أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنِه المبنيِّ على الحكمة الباهرةِ ، وذلك عند كون الشفيع من المصطَفْين الأخيارِ والمشفوعُ له ممن يليق بالشفاعة كقوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } وفيه من الدِلالة على عظمة جلالِه سبحانه ما لا يخفى { ذلكم } إشارةٌ إلى المعلوم بتلك العظمةِ أي ذلكم العظيمُ الشأنِ المنعوتُ بما ذكر من نعوت الكمالِ التي عليها يدور استحقاقُ الألوحية { الله } وقوله تعالى : { رَبُّكُمْ } بيانٌ له أو بدلٌ منه أو خبرٌ ثانٍ لاسم الإشارةِ ، وهذا بعد بيانِ أن ربَّهم الله الذي خلق السمواتِ والأرضَ الخ ، لزيادة التقريرِ والمبالغةِ في التذكير ولتفريع الأمرِ بالعبادة عليه بقوله تعالى : { فاعبدوه } أي وحّدوه من غير أن تشركوا به شيئاً من ملَك أو نبيَ فضلاً عن جماد لا يُبصر ولا يَسمع ولا يضر ولا ينفع وآمِنوا بما أنزله إليكم { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي تعلمون أن الأمرَ كما فُصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقِفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدوا عنه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.