اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة ، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب ، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب ، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين :

أحدهما : إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً ، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف .

والثاني : إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما ، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين .

فإمَّا إثبات الإله ، فبقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض } ، وأمَّا إثبات المعاد ، فبقوله تعالى : { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً } [ يونس : 4 ] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن ، فإن قيل : كلمة " الَّذي " وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع ، كما إذا قيل لك : مَنْ زَيْدٌ ؟ فتقول : الذي أبوه مُنْطلق ، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع ، فهاهنا لما قال : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف ؟ .

فالجواب : أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى ؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل ، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم ، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم ، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف . فإن قيل : ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السماوات والأرض ، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ ؟

فالجواب على قول أهل السُّنَّة : أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد ، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح ، وأمَّا على قول المعتزلة : وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة ، فقال القاضي : " لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السماوات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين " ثم قال : فإن قيل : فمن المُعْتَبر ؟ ثم أجاب فقال : أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السماوات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً .

فإن قيل : فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد ؟ .

قلنا : إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت ، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك ، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور ، لأنَّا نخشى الفَوْت ، ونخافُ العَجْز .

قال : وإذا ثَبَتَ هذا ، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ ، كان سابقاً على خلقِ السماوات والأرض .

فإن قيل : أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ ، وقبل خلق السماوات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان ؟

قلنا : الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسماوات والأرض في أمكنتها ، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته ؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى .

لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ . وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك .

فإن قيل : هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا ، أو كما قال ابن عباس : إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون .

فالجواب : قال القاضي : الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة ، ويمكن أن يقال : لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها .

فإن قيل : هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف ؟

فالجواب : التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السماوات والأرض في مدَّة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر ، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام .

فإن قيل : هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة .

فالجواب : أن تلك المُدَّة غير موجودة ، بل هي مفروضة موهُومة ، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة ، فنحن نقوله في حدوث العالم .

فإن قيل : اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده ، فما المرادُ بهذه الآية ؟ فالجواب : أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته .

قوله : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } قال ابنُ الخطيب : لا يمكن حمل الآية على ظاهرها ، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه ، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل ، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش ، وإنه لولا العرش لسقط ونزل ، وذلك محالٌ ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له ، وأيضاً فإن قوله : " ثُمَّ استوى " يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ ، وكل متغير محدث ، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق . وأيضاً : لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّ تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً ، وذلك من صفاتِ المُحدثات . وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض ؛ لأنَّ كلمة " ثُمَّ " للتَّراخي ، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش ، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة ، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش ، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها ، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة ، وإذا تقرَّر هذا ، فقال جمهور المفسِّرين : المراد بالعرش هنا : هو الجسم العظيم الذي في السَّماء ، وهو مخلوق قبل خَلْق السماوات والأرض ، بدليل قوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] .

وقيل : المراد من العرش : الملك ، يقال : فلان على عرشه أي : ملكه . وقال أبُو مسلم الأصفهاني . " المراد بالعَرْش : أنَّه تعالى لمَّا خلق السماوات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً ، وبانيه يسمَّى عارشاً ، قال تعالى { وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [ النحل : 68 ] أي : يبنون ، وقال : { وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } [ البقرة : 259 ] ، والمراد : أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها ، وقال : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] أي : بناؤه على الماءِ ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك ، لأنه أعجب في القدرة ، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة ، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه ، والله تعالى بنى السماوات والأرض على الماء ، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش : هو الاستعلاء عليه بالقَهْر ، لقوله { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ } [ الزخرف : 12 ، 13 ] ، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك ، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء ، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع ، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأمَّا أجرام السماوات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً " .

وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] الآية .

قوله : { يُدَبِّرُ الأمر } فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل " إنَّ " .

الثاني : أنَّه حالٌ .

الثالث : أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب . ومعنى " يدبِّر الأمر " : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة ، أي : يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ ، وأحوال ملكوت السماوات والأرض . قوله { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي : يدبر الأشياء ، لا بشفاعة شفيعٍ ، ولا تدبير مدبر ، فمعناه : أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ .

فإن قيل : كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة ؟ فالجواب : قال الزَّجَّاج : إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون : إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله . وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث ، كان يقول : إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى .

وقال أبو مسلم : " الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني ، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال : الزوْج والفرد " . فمعنى الآية : خلق الله السماوات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه ، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر ، وهو المراد من قوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي : لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود ، إلاَّ من بعد أن قال له : كُنْ حتَّى كان . ثم قال { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه } مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له ، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات ، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها .

ثم قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة .