نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث{[37570]} - سحر ، وعلى حقيقة{[37571]} أنه من عنده من غير شبهة ، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها ، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم ، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال : { إن ربكم } أي الموجد لكم والمربي والمحسن { الله } أي من ربى{[37572]} شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه ، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي{[37573]} له العظمة كلها قطعاً ، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم { الذي } بدأ الخلق بأن { خلق } أي قدر وأوجد { السماوات والأرض } على اتساعهما وكثرة ما فيهما{[37574]} من المنافع { في ستة أيام } لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء .

ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير ، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي : { ثم استوى } أي عمل في تدبيره وإتقان{[37575]} ما فيه وإحكامه عمل{[37576]} المعتني بذلك { على العرش } المتقدم وصفه بالعظمة ، وليست " ثم " للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها ؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله : { يدبر } لأن التدبير أعدل أحوال الملك {[37577]}فالاستواء كناية عنه { الأمر } {[37578]}كله فلا يخفى عليه عاقبة أمر من الأمور ، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه ، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على{[37579]} إحكام عواقبها ، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي{[37580]} بعض الأمور بغير{[37581]} إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه ، بل هو متصف بأنه { ما من شفيع } أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك .

ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع{[37582]} الأزمان والأماكن ، أتى بالجار فقال : { إلا من بعد إذنه } فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم{[37583]} ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته ، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه ، فتحرر أنه ليس إلا من عنده{[37584]} وأنه أمر بإبلاغه ، وقد عرف من هذا أن { ما من شفيع } في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره {[37585]}أمر من الأمور{[37586]} ولا يغلبه شيء أصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها{[37587]} والشفيع : السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة ، وقد وقع ذكر{[37588]} الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك ؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه{[37589]} فيها {[37590]}أحد ، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه{[37591]} فيها{[37592]} شيء ، فنبه على ذلك بقوله : { ذلكم } أي العظيم الشأن العالي المراتب { الله } أي الملك الأعلى { ربكم } الذي تقرر{[37593]} له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية{[37594]} ما لا يبلغه وصف { فاعبدوه } أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة ، ولولا فضله لم يكن لمن{[37595]} زل أدنى زلة طاعة .

ولما سبب سبحانه{[37596]} عن أوصافه{[37597]} العلى ما وجب له{[37598]} من الأمر بالعبادة ، تسبب{[37599]} عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها لما قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم{[37600]} شواهدها فقال : { أفلا تذكرون* } أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام ، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريده ، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره{[37601]} إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره و{[37602]} أنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه{[37603]} أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع ! .


[37570]:في ظ: سحر.
[37571]:من ظ، وفي الأصل: حقته.
[37572]:في الأصل وظ: رب.
[37573]:زيد من ظ.
[37574]:في ظ: فيها.
[37575]:في ظ: إتقانه.
[37576]:من ظ، وفي الأصل: على.
[37577]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[37578]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[37579]:في ظ: عن.
[37580]:من ظ، وفي الأصل: يقتضي.
[37581]:في ظ: من غير.
[37582]:في ظ: بجميع.
[37583]:سقط من ظ.
[37584]:زيد بعده في الأصل: بعجز الخلق عن معارضته فحصل، ولم تكن الزيادة في ظ فحذفناها.
[37585]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[37586]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[37587]:في ظ: وغيره.
[37588]:في ظ: ذلك.
[37589]:من ظ، وفي الأصل: لم يشاركه.
[37590]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[37591]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[37592]:زيد لاستقامة العبارة.
[37593]:من ظ، وفي الأصل: يقر.
[37594]:في ظ: بالتربية.
[37595]:زيد من ظ.
[37596]:زيد من ظ.
[37597]:في ظ: أوصاف.
[37598]:في ظ: عليه.
[37599]:في ظ: سبب.
[37600]:من ظ، وفي الأصل: فهم.
[37601]:في ظ: يضر.
[37602]:زيد من ظ.
[37603]:زيد من ظ.