فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل له العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء على رجل منهم فقال : { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } من أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثم شمس ولا قمر ، ولو شاء لخلقهن في لمحة والعدول عنه لتعليم خلقه التأني والتمهل في الأمور ، وتخصيص الستة بالذكر مع أن التثبيت بأقل منها وبأزيد عليها قد استأثر الله بعلمه .

والمعنى أن من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسوله على الناس من جنسهم محلا للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة لهذا الرسول .

{ ثم استوى على العرش } استواء يليق به وهذه طريقة السلف المفوضين وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف بما فيه كفاية فلا نعيده هنا قال الكرخي : عن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف . انتهى فهذه الصفة يجب الإيمان بها وإمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

وطريقة الخلف المؤولين محجوجة بنصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها وظاهر الآية على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد خلق السماوات والأرض لأن كلمة ثم للتراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل العرش غنيا عنه ، فلما خلفه امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته عن الاستغناء إلى الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيا عنه ، ولكن لما قال هو سبحانه وتعالى باستوائه عليه وجب الإيمان به على ما يليق لجلاله .

ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه مع ما مر من خلق هاتيك الأجرام العظام فقال : { يدبر الأمر } وترك العاطف لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل لما قبلها ، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المقبول والشكل المحمود وقال مجاهد : يقضيه ويقدره وحده على الوجه الأتم الأكمل وقيل يبعث الأمر ، وقيل ينزل الأمر ، وقيل يأمر به ويمضيه والمعنى متقارب واشتقاقه من الدبر ، والأمر الشأن وهو أحوال ملكوت السماوات والأرض والعرش وسائر الخلق من الجزئيات الحادثة شيئا فشيئا على أطوار شتى لا تكاد تحصى .

{ ما من شفيع } يشفع عنده يوم القيامة { إلا من بعد إذنه } له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد أذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب وله التصرف المطلق في العالم وقد تقدم معنى الشفاعة في البقرة وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى .

{ ذلكم } أي فاعل هذه الأشياء العظيمة من الخلق والتدبير { الله ربكم } أي سيدكم لا رب لكم سواه ، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله { إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض } { فاعبدوه } أمرهم بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره فكيف تعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر .

والاستفهام في قوله : { أفلا تذكرون } للإنكار والتوبيخ والتقريع لأن من له أدنى تذكر وأقل اعتبار بهذا ولا يخفى عليه .