فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم ، فقال : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } أي : من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوّره ، كيف يكون إرساله لرسول إلى الناس من جنسهم محلاً للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك ، فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة بهذا الرسول ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في الأعراف في قوله :{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } فلا نعيده هنا ، ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه فقال : { يُدَبّرُ الأمر مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } وترك العاطف ، لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل ، لما قبلها ، وقيل : هي في محل نصب على الحال من ضمير استوى . وقيل : مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها ؛ لتقع على الوجه المقبول . وقال مجاهد : يقضيه ويقدّره وحده ، وقيل : يبعث الأمر ، وقيل : ينزل الأمر ، وقيل : يأمر به ويمضيه ، والمعنى متقارب ، واشتقاقه من الدبر ، والأمر الشأن ، وهو أحوال ملكوت السموات والأرض ، والعرش ، وسائر الخلق . قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فردّ الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه ، لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب . وقد تقدّم معنى الشفاعة في البقرة ، وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى ، والإشارة بقوله : { ذلكم } إلى فاعل هذه الأشياء من الخلق والتدبير : أي الذي فعل هذه الأشياء العظيمة { الله رَبُّكُمُ } واسم الإشارة مبتدأ ، وخبره : الاسم الشريف ، وربكم : بدل منه ، أو بيان له ، أو خبر ثان ، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله : { إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السموات والأرض } ثم أمرهم سبحانه بعبادته بعد أن بين لهم أنه الحقيق بها دون غيره لبديع صنعه وعظيم اقتداره . فكيف يعبدون الجمادات التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تنفع ولا تضر ؟ والاستفهام في قوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } للإنكار ، والتوبيخ ، والتقريع ؛ لأن من له أدنى تذكر ، وأقلّ اعتبار ، يعلم بهذا ولا يخفى عليه .

/خ4