مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِيعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (3)

قوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون }

اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحي والبعثة والرسالة ، ثم إنه تعالى أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد البتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم على الأعمال الصالحة بالثواب ، وعلى الأعمال الباطلة الفاسدة بالعقاب ، كان هذا الجواب إنما يتم ويكمل بإثبات أمرين : أحدهما : إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا نافذا الحكم بالأمر والنهي والتكليف . والثاني : إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة ، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما ، فلا جرم أنه سبحانه ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين .

أما الأول : وهو إثبات الإلهية ، فبقوله تعالى : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض } .

وأما الثاني : وهو إثبات المعاد والحشر والنشر . فبقوله : { إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا } فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن ، ونهاية الكمال . وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قد ذكرنا في هذا الكتاب ، وفي الكتب العقلية أن الدليل الدال على وجود الصانع تعالى ، إما الإمكان وإما الحدوث وكلاهما إما في الذوات وإما في الصفات ، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجود الصانع أربعة ، وهي إمكان الذوات ، وإمكان الصفات ، وحدوث الذوات ، وحدوث الصفات . وهذه الأربعة معتبرة تارة في العالم العلوي وهو عالم السموات والكواكب ، وتارة في العالم السفلي ، والأغلب من الدلائل المذكورة في الكتب الإلهية التمسك بإمكان الصفات وحدوثها تارة في أحوال العالم العلوي ، وتارة في أحوال العالم السفلي ، والمذكور في هذا الموضع هو التمسك بإمكان الأجرام العلوية في مقاديرها وصفاتها ، وتقريره من وجوه : الأول : أن أجرام الأفلاك لا شك أنها مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ ، ومتى كان الأمر كذلك كانت لا محالة محتاجة إلى الخالق والمقدر .

أما بيان المقام الأول : فهو أن أجرام الأفلاك لا شك أنها قابلة للقسمة الوهمية ، وقد دللنا في الكتب العقلية على أن كل ما كان قابلا للقسمة الوهمية ، فإنه يكون مركبا من الأجزاء والأبعاض . ودللنا على أن الذي تقوله الفلاسفة من أن الجسم قابل للقسمة ، ولكنه يكون في نفسه شيئا واحدا كلام فاسد باطل . فثبت بما ذكرنا أن أجرام الأفلاك مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ ، وإذا ثبت هذا وجب افتقارها إلى خالق ومقدر ، وذلك لأنها لما تركبت فقد وقع بعض تلك الأجزاء في داخل ذلك الجرم ، وبعضها حصلت على سطحها ، وتلك الأجزاء متساوية في الطبع والماهية والحقيقة ، والفلاسفة أقروا لنا بصحة هذه المقدمة حيث قالوا إنها بسائط ، ويمتنع كونها مركبة من أجزاء مختلفة الطبائع .

وإذا ثبت هذا فنقول : حصول بعضها في الداخل ، وحصول بعضها في الخارج ، أمر ممكن الحصول جائز الثبوت ، يجوز أن ينقلب الظاهر باطنا ، والباطن ظاهرا . وإذا كان الأمر كذلك وجب افتقار هذه الأجزاء حال تركيبها إلى مدبر وقاهر ، يخصص بعضها بالداخل وبعضها بالخارج فدل هذا على أن الأفلاك مفتقرة في تركيبها وأشكالها وصفاتها إلى مدبر قدير عليم حكيم .

الوجه الثاني : في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله القادر أن نقول : حركات هذه الأفلاك لها بداية ، ومتى كان الأمر كذلك افتقرت هذه الأفلاك في حركاتها إلى محرك ومدبر قاهر .

أما المقام الأول : فالدليل على صحته أن الحركة عبارة عن التغير من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها ، والأزل ينافي المسبوقية بالغير ، فكان الجمع بين الحركة وبين الأزل محالا ، فثبت أن لحركات الأفلاك أولا ، وإذا ثبت هذا وجب أن يقال : هذه الأجرام الفلكية كانت معدومة في الأزل وإن كانت موجودة ، لكنها كانت واقفة وساكنة . وما كانت متحركة . وعلى التقديرين : فلحركاتها أول وبداية .

وأما المقام الثاني : وهو أنه لما كان الأمر كذلك وجب افتقارها إلى مدبر قاهر ، فالدليل عليه أن ابتداء هذه الأجرام بالحركة ذلك الوقت المعين دون ما قبله ودون ما بعده ، لا بد وأن يكون لتخصيص مخصص ، وترجيح مرجح . وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجبا بالذات ، وإلا لحصلت تلك الحركة قبل ذلك الوقت لأجل أن موجب تلك الحركة كان حاصلا قبل ذلك الوقت ، ولما بطل هذا ، ثبت أن ذلك المرجح قادر مختار وهو المطلوب .

الوجه الثالث : في الاستدلال بصفات الأفلاك على وجود الإله المختار ، وهو أن أجزاء الفلك حاصلة فيه لا في الفلك الآخر ، وأجزاء الفلك الآخر حاصلة فيه لا في الفلك الأول . فاختصاص كل واحد منها بتلك الأجزاء أمر ممكن ، ولا بد له من مرجح ، ويعود التقرير الأول فيه . فهذا تقرير هذا الدليل الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وفي الآية سؤالات :

السؤال الأول : أن كلمة { الذي } كلمة وضعت للإشارة إلى شيء مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة ، كما إذا قيل لك من زيد ؟ فتقول : الذي أبوه منطلق ، فهذا التعريف إنما يحسن لو كان كون أبيه منطلقا ، أمرا معلوما عند السامع ، فهنا لما قال : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } فهذا إنما يحسن لو كان كونه سبحانه وتعالى خالقا للسموات والأرض في ستة أيام ، أمرا معلوما عند السامع ، والعرب ما كانوا عالمين بذلك ، فكيف يحسن هذا التعريف ؟

وجوابه أن يقال : هذا الكلام مشهور عند اليهود والنصارى ، لأنه مذكور في أول ما يزعمون أنه هو التوراة . ولما كان ذلك مشهورا عندهم والعرب كانوا يخالطونهم ، فالظاهر أنهم أيضا سمعوه منهم ، فلهذا السبب حسن هذا التعريف .

السؤال الثاني : ما الفائدة في بيان الأيام التي خلقها الله فيها ؟

والجواب : أنه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقل من لمح البصر . والدليل عليه أن العالم مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ ، والجزء الذي لا يتجزأ لا يمكن إيجاده إلا دفعة ، لأنا لو فرضنا أن إيجاده إنما يحصل في زمان ، فذلك الزمان منقسم لا محالة من آنات متعاقبة ، فهل حصل شيء من ذلك الإيجاد في الآن الأول أو لم يحصل ، فإن لم يحصل منه شيء في الآن الأول فهو خارج عن مدة الإيجاد ، وإن حصل في ذلك الآن إيجاد شيء وحصل في الآن الثاني إيجاد شيء آخر ، فهما إن كانا جزأين من ذلك الجزء الذي لا يتجزأ ، فحينئذ يكون الجزء الذي لا يتجزأ متجزئا . وهو محال . وإن كان شيئا آخر ، فحينئذ يكون إيجاد الجزء الذي لا يتجزأ لا يمكن إلا في آن واحد دفعة واحدة ، وكذا القول في إيجاد جميع الأجزاء . فثبت أنه تعالى قادر على إيجاد جميع العالم دفعة واحدة ، ولا شك أيضا أنه تعالى قادر على إيجاده وتكوينه على التدريج .

وإذا ثبت هذا فنقول ههنا مذهبان : الأول : قول أصحابنا وهو أنه يحسن منه كلما أراد ، ولا يعلل شيء من أفعاله بشيء من الحكمة والمصالح ، وعلى هذا القول يسقط قول من يقول : لم خلق العالم في ستة أيام وما خلقه في لحظة واحدة ؟ لأنا نقول كل شيء صنعه ولا علة لصنعه فلا يعلل شيء من أحكامه ولا شيء من أفعاله بعلة ، فسقط هذا السؤال . الثاني : قول المعتزلة وهو أنهم يقولون يجب أن تكون أفعاله تعالى مشتملة على المصلحة والحكمة . فعند هذا قال القاضي : لا يبعد أن يكون خلق الله تعالى السموات والأرض في هذه المدة المخصوصة ، أدخل في الاعتبار في حق بعض المكلفين . ثم قال القاضي :

فإن قيل : فمن المعتبر وما وجه الاعتبار ؟ ثم أجاب وقال : أما المعتبر فهو أنه لا بد من مكلف أو غير مكلف من الحيوان خلقه الله تعالى قبل خلقه للسموات والأرضين ، أو معهما ، وإلا لكان خلقهما عبثا .

فإن قيل : فهلا جاز أن يخلقهما لأجل حيوان يخلقه من بعد ؟ !

قلنا : إنه تعالى لا يخاف الفوت ، فلا يجوز أن يقدم خلق ما لا ينتفع به أحد ، لأجل حيوان سيحدث بعد ذلك ، وإنما يصح منا ذلك في مقدمات الأمور لأنا نخشى الفوت ، ونخاف العجز والقصور . قال : وإذا ثبت هذا فقد صح ما روي في الخبر أن خلق الملائكة كان سابقا على خلق السموات والأرض .

فإن قيل : أولئك الملائكة لا بد لهم من مكان ، فقبل خلق السموات والأرض لا مكان ، فكيف يمكن وجودهم بلا مكان ؟

قلنا : الذي يقدر على تسكين العرش والسموات والأرض في أمكنتها كيف يعجز عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته ؟ وأما وجه الاعتبار في ذلك فهو أنه لما حصل هناك معتبر ، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما يشاهده حالا بعد حال أقوى . والدليل عليه : أن ما يحدث على هذا الوجه ، فإنه يدل على أنه صادر من فاعل حكيم . وأما المخلوق دفعة واحدة فإنه لا يدل على ذلك .

والسؤال الثالث : فهل هذه الأيام كأيام الدنيا أو كما روي عن ابن عباس أنه قال : إنها ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مما تعدون ؟

والجواب : قال القاضي : الظاهر في ذلك أنه تعريف لعباده مدة خلقه لهما ، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفا ، إلا والمدة هذه الأيام المعلومة .

ولقائل أن يقول : لما وقع التعريف بالأيام المذكورة في التوراة والإنجيل ، وكان المذكور هناك أيام الآخرة لا أيام الدنيا ، لم يكن ذلك قادحا في صحة التعريف .

السؤال الرابع : هذه الأيام إنما تتقدر بحسب طلوع الشمس وغروبها ، وهذا المعنى مفقود قبل خلقها ، فكيف يعقل هذا التعريف ؟

والجواب التعريف يحصل بما أنه لو وقع حدوث السموات والأرض في مدة ، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمس وقمر ، لكانت تلك المدة مساوية لستة أيام :

ولقائل أن يقول : فهذا يقتضي حصول مدة قبل خلق العالم ، يحصل فيها حدوث العالم ، وذلك يوجب قدم المدة .

وجوابه : أن تلك المدة غير موجودة بل هي مفروضة موهومة ، والدليل عليه أن تلك المدة المعينة حادثة ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدة أخرى ، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محال ، فكل ما يقولون في حدوث المدة فنحن نقوله في حدوث العالم .

السؤال الخامس : أن اليوم قد يراد به اليوم مع ليلته ، وقد يراد به النهار وحده . فالمراد بهذه الآية أيهما .

والجواب : الغالب في اللغة أنه يراد باليوم . اليوم بليلته .

المسألة الثانية : أما قوله : { ثم استوى على العرش } ففيه مباحث : الأول : أن هذا يوهم كونه تعالى مستقرا على العرش والكلام المستقصى فيه مذكور في أول سورة طه ، ولكنا نكتفي ههنا بعبارة وجيزة . فنقول : هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها ، ويدل عليه وجوه : الأول : أن الاستواء على العرش معناه كونه معتمدا عليه مستقرا عليه ، بحيث لولا العرش لسقط ونزل ، كما أنا إذا قلنا إن فلانا مستو على سريره . فإنه يفهم منه هذا المعنى . إلا أن إثبات هذا المعنى يقتضي كونه محتاجا إلى العرش ، وإنه لولا العرش لسقط ونزل ، وذلك محال ، لأن المسلمين أطبقوا على أن الله تعالى هو الممسك للعرش والحافظ له ، ولا يقول أحد أن العرش هو الممسك لله تعالى والحافظ له . والثاني : أن قوله : { ثم استوى على العرش } يدل على أنه قبل ذلك ما كان مستويا عليه ، وذلك يدل على أنه تعالى يتغير من حال إلى حال ، وكل من كان متغيرا كان محدثا ، وذلك بالاتفاق باطل . الثالث : أنه لما حدث الاستواء في هذا الوقت ، فهذا يقتضي أنه تعالى كان قبل هذا الوقت مضطربا متحركا ، وكل ذلك من صفات المحدثات . الرابع : أن ظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد أن خلق السموات والأرض لأن كلمة ( ثم ) تقتضي التراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل خلق العرش غنيا عن العرش ، فإذا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته من الاستغناء إلى الحاجة . فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيا عن العرش ، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرا على العرش . فثبت بهذه الوجوه أن هذه الآية لا يمكن حملها على ظاهرها بالاتفاق ، وإذا كان كذلك امتنع الاستدلال بها في إثبات المكان والجهة لله تعالى .

المسألة الثالثة : اتفق المسلمون على أن فوق السموات جسما عظيما هو العرش .

إذا ثبت هذا فنقول : العرش المذكور في هذه الآية هل المراد منه ذلك العرش أو غيره ؟ فيه قولان :

القول الأول : وهو الذي اختاره أبو مسلم الأصفهاني ، أنه ليس المراد منه ذلك ، بل المراد من قوله : { ثم استوى على العرش } أنه لما خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها ، فإن كل بناء فإنه يسمى عرشا ، وبانيه يسمى عارشا ، قال تعالى : { ومن الشجر ومما يعرشون } أي يبنون ، وقال في صفة القرية { فهى خاوية على عروشها } والمراد أن تلك القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقوفها ، وقال : { وكان عرشه على الماء } أي بناؤه ، وإنما ذكر الله تعالى ذلك لأنه أعجب في القدرة ، فالباني يبني البناء متباعدا عن الماء على الأرض الصلبة لئلا ينهدم ، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء ليعرف العقلاء قدرته وكمال جلالته ، والاستواء على العرش هو الاستعلاء عليه بالقهر ، والدليل عليه قوله تعالى : { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه } قال أبو مسلم : فثبت أن اللفظ يحتمل هذا الذي ذكرناه . فنقول : وجب حمل اللفظ عليه ، ولا يجوز حمله على العرش الذي في السماء ، والدليل عليه هو أن الاستدلال على وجود الصانع تعالى ، يجب أن يحصل بشيء معلوم مشاهد ، والعرش الذي في السماء ليس كذلك ، وأما أجرام السموات والأرضين فهي مشاهدة محسوسة ، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصانع الحكيم جائزا صوابا حسنا . ثم قال : ومما يؤكد ذلك أن قوله تعالى : { خلق السموات والأرض في ستة أيام } إشارة إلى تخليق ذواتها ، وقوله : { ثم استوى على العرش } يكون إشارة إلى تسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لمصالحها ، وعلى هذا الوجه تصير هذه الآية موافقة لقوله سبحانه وتعالى : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها } فذكر أولا أنه بناها ، ثم ذكر ثانيا أنه رفع سمكها فسواها . وكذلك ههنا ذكر بقوله : { خلق السموات والأرض } أنه خلق ذواتها ثم ذكر بقوله : { ثم استوى على العرش } أنه قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها .

والقول الثاني : وهو القول المشهور لجمهور المفسرين : أن المراد من العرش المذكور في هذه الآية : الجسم العظيم الذي في السماء ، وهؤلاء قالوا إن قوله تعالى : { ثم استوى على العرش } لا يمكن أن يكون معناه أنه تعالى خلق العرش بعد خلق السموات والأرضين بدليل أنه تعالى قال في آية أخرى { وكان عرشه على الماء } وذلك يدل على أن تكوين العرش سابق على تخليق السموات والأرضين . بل يجب تفسير هذه الآية بوجوه أخر . وهو أن يكون المراد : ثم يدبر الأمر وهو مستو على العرش .

والقول الثالث : أن المراد من العرش الملك ، يقال فلان ولي عرشه أي ملكه فقوله : { ثم استوى على العرش } المراد أنه تعالى لما خلق السموات والأرض واستدارت الأفلاك والكواكب ، وجعل بسبب دورانها الفصول الأربعة والأحوال المختلفة من المعادن والنبات والحيوانات ، ففي هذا الوقت قد حصل وجود هذه المخلوقات والكائنات . والحاصل أن العرش عبارة عن الملك ، وملك الله تعالى عبارة عن وجود مخلوقاته ، ووجود مخلوقاته إنما حصل بعد تخليق السموات والأرض ، لا جرم صح إدخال حرف { ثم } الذي يفيد التراخي على الاستواء على العرش والله أعلم بمراده .

المسألة الرابعة : أما قوله : { يدبر الأمر } معناه أنه يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله ، الناظر في أدبار الأمور وعواقبها ، كي لا يدخل في الوجود ما لا ينبغي . والمراد من { الأمر } الشأن يعني يدبر أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض .

فإن قيل : ما موقع هذه الجملة ؟

قلنا : قد دل بكونه خالقا للسموات والأرض في ستة أيام وبكونه مستويا على العرش ، على نهاية العظمة وغاية الجلالة . ثم أتبعها بهذه الجملة ليدل على أنه لا يحدث في العالم العلوي ولا في العالم السفلي أمر من الأمور ولا حادث من الحوادث ، إلا بتقديره وتدبيره وقضائه وحكمه ، فيصير ذلك دليلا على نهاية القدرة والحكمة والعلم والإحاطة التدبير ، وأنه سبحانه مبدع جميع الممكنات ، وإليه تنتهي الحاجات .

وأما قوله تعالى : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } ففيه قولان :

القول الأول : وهو المشهور أن المراد منه أن تدبيره للأشياء وصنعه لها ، لا يكون بشفاعة شفيع وتدبير مدبر . ولا يستجرئ أحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه ، لأنه تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب ، فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح .

فإن قيل : كيف يليق ذكر الشفيع بصفة مبدئية الخلق ، وإنما يليق ذكره بأحوال القيامة ؟

والجواب من وجوه :

الوجه الأول : ما ذكره الزجاج : وهو أن الكفار الذين كانوا مخاطبين بهذه الآية كانوا يقولون : إن الأصنام شفعاؤنا عند الله ، فالمراد منه الرد عليهم في هذا القول وهو كقوله تعالى : { يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } .

والوجه الثاني : وهو يمكن أن يقال إنه تعالى لما بين كونه إلها للعالم مستقلا بالتصرف فيه من غير شريك ولا منازع ، بين أمر المبدأ بقوله : { يدبر الأمر } وبين حال المعاد بقوله : { ما من شفيع إلا من بعد إذنه } .

والوجه الثالث : يمكن أيضا أن يقال إنه تعالى وضع تدبير الأمور في أول خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من رعاية المصالح ، مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في طلب تحصيل المصالح ، فدل هذا على أن إله العالم ناظر لعباده محسن إليهم مريد للخير والرأفة بهم ، ولا حاجة في كونه سبحانه كذلك إلى حضور شفيع يشفع فيه .

والقول الثاني : في تفسير هذا الشفيع ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، فقال : الشفيع ههنا هو الثاني ، وهو مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر ، كما يقال الزوج والفرد ، فمعنى الآية خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ، ثم خلق الملائكة والجن والبشر ، وهو المراد من قوله : { إلا من بعد إذنه } أي لم يحدث أحد ولم يدخل في الوجود ، إلا من بعد أن قال له : كن ، حتى كان وحصل .

واعلم أنه تعالى لما بين هذه الدلائل وشرح هذه الأحوال ، ختمها بعد ذلك بقوله : { ذلكم الله ربكم فاعبدوه } مبينا بذلك أن العبادة لا تصلح إلا له ، ومنبها على أنه سبحانه هو المستحق لجميع العبادات لأجل أنه هو المنعم بجميع النعم التي ذكرها ووصفها .

ثم قال بعده : { أفلا تذكرون } دالا بذلك على وجوب التفكر في تلك الدلائل القاهرة الباهرة ، وذلك يدل على أن التفكر في مخلوقات الله تعالى والاستدلال بها على جلالته وعزته وعظمته ، أعلى المراتب وأكمل الدرجات .