التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82)

هذا انتقال إلى التذكير بالقيامة وما ادخر لهم من الوعيد . فهذه الجملة معطوفة على الجمل قبلها عطف قصة على قصة . ومناسبة ذكرها ما تقدم من قوله { إنك لا تسمع الموتى } إلى قوله { عن ضلالتهم } [ النمل : 80 ، 81 ] . والضمير عائد إلى الموتى والصم والعمي وهم المشركون .

و { القول } أريد به أخبار الوعيد التي كذبوها متهكمين باستبطاء وقوعها بقولهم { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } [ النمل : 71 ] ، فالتعريف فيه للعهد يفسره المقام .

والوقوع مستعار لحلول وقته وذلك من وقت تهيؤ العالم للفناء إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار .

والآية تشير إلى شيء من أشراط حلول الوعيد الذي أنذروا به وهو الوعيد الأكبر يعني وعيد البعث ، فتشير إلى شيء من أشراط الساعة وهو من خوارق العادات . والتعبير عن وقوعه بصيغة الماضي لتقريب زمن الحال من المضي ، أي أشرف وقوعه ، على أن فعل المضي مع ( إذا ) ينقلب إلى الاستقبال .

والدابة : اسم للحي من غير الإنسان ، مشتق من الدبيب ، وهو المشي على الأرض وهو من خصائص الأحياء . وتقدم الكلام على لفظ { دابة } في سورة الأنعام ( 38 ) . وقد رويت في وصف هذه الدابة ووقت خروجها ومكانه أخبار مضطربة ضعيفة الأسانيد فانظرها في « تفسير القرطبي » وغيره إذ لا طائل في جلبها ونقدها .

وإخراج الدابة من الأرض ليريهم كيف يحي الله الموتى إذ كانوا قد أنكروا البعث . ولا شك أن كلامها لهم خطاب لهم بحلول الحشر . وإنما خلق الله الكلام لهم على لسان دابة تحقيراً لهم وتنديماً على إعراضهم عن قبول أبلغ كلام وأوقعه من أشرف إنسان وأفصحه ، ليكون لهم خزياً في آخر الدهر يعيرون به في المحشر . فيقال : هؤلاء الذين أعرضوا عن كلام رسول كريم فخوطبوا على لسان حيوان بهيم . على نحو ما قيل : استفادة القابل من المبدإ تتوقف على المناسبة بينهما .

وجملة { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } تعليل لإظهار هذا الخارق للعادة حيث لم يوقن المشركون بآيات القرآن فجعل ذلك إلجاء لهم حين لا ينفعهم .

وقرأ الجمهور { إن الناس } بكسر همزة ( إن ) ، وموقع ( إن ) في مثل هذا التعليل . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي { أن الناس } بفتح الهمزة وهي أيضاً للتعليل لأن فتح همزة ( أن ) يؤذن بتقدير حرف جر وهو باء السببية ، أي تكلمهم بحاصل هذا وهو المصدر . والمعنى : أنها تسجل على الناس وهم المشركون عدم تصديقهم بآيات الله . وهو تسجيل توبيخ وتنديم لأنهم حينئذ قد وقع القول عليهم ف { لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل } [ الأنعام : 158 ] . وحمل هذه الجملة على أن تكون حكاية لما تكلمهم به الدابة بعيد .