اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82)

قوله : { وَإِذَا وَقَعَ القول عَلَيْهِم } أي : مضمون القول ، أو أطلق المصدر على المفعول ، أي : المقول{[39483]} . ومعنى وقع القول عليهم : وجب العذاب عليهم ، وقال قتادة : إذا غضب الله عليهم { أخرجنا لهم دابة من الأرض } .

قوله : «تُكَلِّمُهُمْ » العامة على التشديد ، وفيه وجهان :

أظهرهما : أنه من الكلام والحديث ، ويؤيده قراءة أُبيّ : «تُنَبِّئُهُمْ »{[39484]} وقراءة يحيى بن سلام{[39485]} : «تحدثهم » {[39486]}- وهما تفسيران لها .

الثاني : «تجرحهم » ويدل عليه قراءة ابن عباس وابن جبير ومجاهد وأبي زرعة والجحدري «تَكْلُمُهُمْ » - بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام{[39487]} - من الكَلْمِ وهو الجرح{[39488]} ، وقد قرئ «تجرحهم »{[39489]} وجاء في الحديث : أنها تسم الكافر .

قوله : «أنَّ النَّاسَ » قرأ الكوفيون{[39490]} بفتح «أن » والباقون بالكسر{[39491]} ، فأما الفتح فعلى تقدير الباء ، أي : بأن الناس ، ويدل عليه التصريح بها في قراءة عبد الله «بأنَّ النَّاسَ »{[39492]} . ثم هذه الباء يحتمل أن تكون معدية وأن تكون سببيّة ، وعلى التقديرين يجوز أن تكون «تُكَلِّمُهُمْ » بمعنييه من الحديث والجرح أي : تحدثهم بأن الناس أو بسبب أن الناس أو تجرحهم بأن الناس ، أي : تسمهم بهذا اللفظ أو تسمهم بسبب انتفاء الإيمان{[39493]} . وأما الكسر فعلى الاستئناف ، ثم هو يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون من كلام{[39494]} الدابة ، فيعكر عليه «بِآيَاتِنَا » ويجاب عنه إما باختصاصها صح إضافة الآيات إليها ، كقولك : اتباع الملوك ودوابنا وخيلنا وهي لملكهم{[39495]} ، وإما على حذف مضاف أي : بآيات ربنا{[39496]} ، و «تُكَلِّمُهُمْ » إن كان من الحديث فيجوز أن يكون إما لإجراء «تُكَلِّمُهُمْ » مجرى تقول لهم{[39497]} ، وإما على إضمار القول أي : فتقول كذا ، وهذا القول تفسير لتكلمهم{[39498]} .

فصل :

قال السدي : تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام{[39499]} . وقيل : تقول للواحد هذا مؤمن وهذا كافر{[39500]} . وقيل كلامهم ما قال { أَنَّ الناس كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يوقنون } تخبر الناس أن أهل مكة لم يؤمنوا بالقرآن والبعث{[39501]} . قال ابن عمر : وذلك حين لا يؤمر بمعروف ولا ينهى عن منكر{[39502]} . قال{[39503]} رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «بَادِرُوُا بالأَعْمَالِ ستّاً . طلوعَ الشمس من مغربها ، والدجالَ ، والدخانَ والدابةَ وخاصةَ أحدكم ، وأمرَ العامة »{[39504]} وقال عليه السلام :{[39505]} «إنّ أولَ الآياتِ خروجاً طلوعُ الشمس من مغربها ، وخروجُ الدابة على الناس ضحًى ، فأيتهما{[39506]} ما كانت قبل صاحبتها ، فالأخرى على أثرها »{[39507]} وقال عليه السلام{[39508]} : «يكون للدابة ثلاث خرجات من الدهر ، فتخرج خروجاً في{[39509]} أقصى اليمن ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ولا يدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم تكمن{[39510]} زماناً طويلاً ، ثم تخرج خرجة أخرى قريباً من مكة ، فيفشو ذكرها بالبادية ، ويدخل ذكرها القرية - يعني مكة - ثم بينا الناس يوماً في أعظم المساجد على الله حرمه ، وأكرمها على الله عزَّ وجلَّ يعني المسجد الحرام ، ثم لم يرعهم إلا وهي في ناحية المسجد تدنو وتدنو » - قال الراوي : ما بين الركن الأسود إلى باب بني مخزوم عن يمين الخارج في وسط من ذلك - «فارفضّ الناس عنها ، وثبت لها عصابة عرفوا أنهم لم يعجزوا الله ، فخرجت عليهم تنفض رأسها من التراب فمرت بهم فجلت عنهم عن وجوههم ، حتى تركتها كأنها الكواكب الدرية ، ثم ولت في الأرض لا يدركها طالب ولا يعجزها هارب ، حتى إن الرجل ليقوم فيتعوذ منها بالصلاة ، فتأتيه من خلفه ، فتقول : يا فلان الآن تصلي ، فيقبل عليها بوجهه فتسمه في وجهه ، فيتجاور الناس في ديارهم ، ويصطحبون في أسفارهم ويشتركون في الأموال ، يُعرَف الكافر من المؤمن ، فيقال للمؤمن يا مؤمن ، وللكافر يا كافر »{[39511]} وقال عليه السلام :{[39512]} «تخرج الدابة ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالعصا ، وتخطم{[39513]} أنف الكافر بالخاتم ، حتى إن أهل الخوان{[39514]} ليجتمعون{[39515]} ، فيقولون هذا : يا مؤمن ، ويقول هذا : يا كافر »{[39516]} وروي عن عليّ قال : ليس بدابة لها ذَنَب ، ولكن لها لحية ، كأنه يشير إلى أنها رجل{[39517]} ، والأكثرون على أنها دابة{[39518]} ، لما روى ابن جريج{[39519]} عن أبي الزبير أنه وصف الدابة فقال : رأسها رأس الثور ، وعينها عين الخنزير ، وأن لها أذناً ، قيل : وقرنها قرن أيل{[39520]} وصدرها صدر أسد ، ولونها لون النمر ، وخاصرتها خاصرة هو ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصلين اثني عشر ذراعاً ، معها عصا موسى وخاتم سليمان ، وذكر باقي الحديث{[39521]} . وروى حذيفة بن اليمان{[39522]} قال {[39523]} : ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدابة ، قلت : يا رسول الله : من أين تخرج ؟ قال : «من أعظم حرمة المساجد على الله بينما عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون إذ تضطرب الأرض تحتهم وينشق الصفا مما يلي المشعر ، وتخرج الدابة من الصفا أول ما يبدوا منها رأسها ملمعة ذات وبر وريش لن يدركها طالب ولن يفوتها هارب تسم الناس مؤمناً وكافراً ، أما المؤمن فتترك{[39524]} وجهه كأنه كوكب دري ، وتكتب بين عينيه مؤمن ، وأما الكافر فتنكت بين عينيه نكتة سوداء وتكتب بين عينيه : كافر{[39525]} » .

وروي عن ابن عباس أنه قرع الصفا بعصا - وهو محرم - وقال : إن الدابة لتسمع قرع عصاي هذه{[39526]} وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : «بئس الشعب شعب جياد » ، مرتين أو ثلاثاً ، قيل : ولم ذاك يا رسول الله ؟ قال : «تخرج منه الدابة ، فتصرخ ثلاث صرخات يسمعها من بين الخافقين{[39527]} » .

وقال وهب : وجهها وجه الرجل ، وسائر خلقها خلق الطير فتخبر من رآها{[39528]} أن أهل مكة كانوا بمحمد والقرآن لا يوقنون{[39529]} .


[39483]:انظر البحر المحيط 7/96.
[39484]:المختصر (110)، البحر المحيط 7/97.
[39485]:هو يحيى بن سلام بن أبي ثعلبة، أبو زكريا البصري، له اختيار في القراءة عن طريق الآثار، وكان ثقة، ذا علم بالكتاب والسنة ومعرفة العربية توفي سنة 200 هـ. طبقات القراء 2/373.
[39486]:انظر البحر المحيط 7/97.
[39487]:المحتسب 2/144، البحر المحيط 7/97.
[39488]:انظر اللسان (كلم).
[39489]:المختصر (110)، البحر المحيط 7/97.
[39490]:وهم: عاصم، وحمزة، والكسائي.
[39491]:السبعة (487)، الكشف 2/167، الإتحاف (339-340).
[39492]:المختصر (110)، الكشف 2/167، البحر المحيط 7/97.
[39493]:انظر البحر المحيط 7/97.
[39494]:كلام: سقط من ب.
[39495]:في ب: ملكهم. وانظر الكشاف 3/153. البحر المحيط 7/97.
[39496]:انظر البحر المحيط 7/97.
[39497]:في ب: القول.
[39498]:انظر الكشاف 3/153، البحر المحيط 7/97.
[39499]:انظر البغوي 6/305.
[39500]:المرجع السابق.
[39501]:انظر البغوي 6/305-306.
[39502]:انظر البغوي 6/306.
[39503]:في ب: وقال.
[39504]:أخرجه مسلم (فتن) 4/2267، وأحمد 2/337، 372، 407، 511.
[39505]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[39506]:فأيتهما: سقط من ب.
[39507]:أخرجه أبو داود (ملاحم) 4/114.
[39508]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[39509]:في ب: من.
[39510]:في ب: تمكت.
[39511]:أخرجه الطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في البعث عن حذيفة بن أسيد الغفاري. انظر البغوي 6/307-308 الدر المنثور 5/116-117.
[39512]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[39513]:أي: تسمه بها، من خطمت البعير إذا كويته خطًّا من الأنف إلى أحد خدّيه، ومعناه أنها تؤثر في أنفه سمة يعرف بها. اللسان (خطم).
[39514]:الخوان: المائدة معرب. اللسان (خون).
[39515]:في ب: يجتمعون.
[39516]:البغوي 6/308، الدر المنثور 5/116.
[39517]:انظر البغوي 6/308.
[39518]:المرجع السابق.
[39519]:في ب: ابن جرير، والتصويب من البغوي.
[39520]:الأيل: الوعل، والجمع أيايل وأيائل. المعجم الوسيط (أيل).
[39521]:انظر البغوي 6/308-309.
[39522]:تقدم.
[39523]:في ب: فقال.
[39524]:في ب: فتنزل.
[39525]:أخرجه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان. انظر البغوي 6/309، الدر المنثور 5/1167.
[39526]:انظر البغوي 6/309.
[39527]:أخرجه ابن مردويه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة. انظر البغوي 6/309، الدر المنثور 5/117.
[39528]:في ب: وراها.
[39529]:انظر البغوي 6/309.