فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82)

{ وقع القول } وجب الغضب ، وحق العذاب ، وأتى أمر الله بقيام الساعة وذهاب الكون .

{ دابة } حيوان يدب على وجه الأرض من غير الإنسان .

{ من الأرض } قد يكون المراد أنها تخلق بالتولد كالحشرات ، لا بالتوالد كسائر الحيوانات .

{ وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون82 ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون83 حتى إذا جاؤوا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون84 ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون85 ألم يروا أنا جعلنا اليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون86 }

عندما يحين الوقت الذي علم الله أنه لن تتفتح قلوب بعده للإسلام والهدي ، وقضى ربنا أنه لن تقبل بعد توبة ولا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ، وأزف واقترب موعد ذهاب الكون وقيام الساعة ، تجيء أماراتها وعلاماتها ، ومنها أن تنشق الأرض عن دابة وبهيمة ينطقها المولى القدير الذي أنطق كل شيء- بأمره وإرادته- وتخبر الناس أن الجاحدين في شك من اقتدار الملك المهيمن وصدق وعده ، وتردد في قبول آياته وعلامات لقائه ، فحقت كلمة ربنا أن لن يؤمن إلا من قد آمن ، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ) . . يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا . . ( {[2962]} وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية بما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها )لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض " ، أورد أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- بسنده- من ثلاث طرق عن ابن عمر رضي الله عنهما : خروج هذه الدابة حين لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، كما نقل عن ابن عطية : إذا لم يعرفوا معروفا ولم ينكروا منكرا . . اه .

ويقول الحسن النيسابوري : { وإذا وقع القول } أي دنا وشارف أن يحصل مؤداه ومفهومه { عليهم } وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب . . اه ، نقل صاحب جامع البيان ، وصاحب الجامع لأحكام القرآن وصاحب تفسير القرآن العظيم عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة{[2963]} ، وقديما ذهب البعض إلى أن هذه الدابة ربما تكون إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ، ورد عليهم أبو العباس القرطبي بما حاصله : إن هذا يؤدي إلى أن الدابة ليست آية خاصة خارقة للعادة ، وترتفع خصوصية وجودها إذا وقع القول ، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر ، الفاضل العالم ، الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان ، أو بالعالم ، أو بالإمام ، إلى أن يسمى بدابة ، وهذا خروج عن عادة الفصحاء ، وعن تعظيم العلماء ، وليس ذلك دأب العقلاء . . اه ، أقول : وفي ذلك صرف للقرآن الكريم عن ظاهره ، ومجافاة للحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال : اطلع النبي صلى الله عليه وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال : " ما تذاكرون " ؟ قالوا : نذكر الساعة ، قال : " إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات[ فذكر ] الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزل عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس من محشرهم " .

{ تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } تخبرهم أن الكافر والفاجر يجادل في الحق بعد ما تبين ، ويرتاب ويشك فيما يصنع الله من دلائل عجيبة- منها خروج الدابة- وإنما جاء فيما حكاه القرآن : { بآياتنا } أي بآيات ربنا ، فحذف المضاف ، أو سبب الإضافة اختصاصها بالله ، كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا ، وإنما هي خيل مولاه وبلاده ، ولله المثل الأعلى ، وبعد أن نقل صاحب روح المعاني أخبارا في صفة الدابة ليس فيها خبر واحد يصلح للاعتضاد ولا للاستشهاد ، وأفاض في ذلك بما يقارب ألف كلمة قال : وفي البحر أنهم اختلفوا في ماهيتها وشكلها ومحل خروجها ، وعدد خروجها ، ومقدار ما يخرج منها ، وما تفعل بالناس ، وما الذي تخرج به ؟ اختلافا مضطربا ، معارضا بعضه بعضا فطرحنا ذكره لأن نقله تسويد للورق بما لا يصح ، وتضييع لزمان نقله اه ، وهو كلام حق ، وأنا إنما نقلت بعض ذلك دفعا لشهوة من يحب الاطلاع على شيء من أخبارها صدقا كان أو كذبا . . ومن الأخبار في هذا الباب ما صححه الحاكم ، وتصحيحه محكوم عليه بين المحدثين بعدم الاعتبار ، وقصارى ما أقول في هذه الدابة أنها دابة عظيمة ذات قوائم ليست من نوع الإنسان أصلا ، يخرجها الله تعالى آخر الزمان من الأرض . . اه .


[2962]:سورة الأنعام. من الآية 158.
[2963]:ومما جاء فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام،! تنفض عن رأسها التراب،! فارفض الناس عنها شتى ومعا، وتثبت عصابة من المؤمنين، وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله، فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري، وولت في الأرض لا يدركها طالب، ولا ينجو منها هارب، حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول: يا فلان الآن تصلي؟! فيقبل عليها فتسمه في وجهه، ثم تنطلق، ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار، يعرف المؤمن من الكافر، حتى إن المؤمن ليقول: يا كافر! اقضني حقي، وحتى إن الكافر ليقول: يا مؤمن اقضني حقي".