التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82)

{ وإِذَا وقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ 82 ويَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ 83 حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ولَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ 84 ووقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنطِقُونَ 85 أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ والنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ 86 } [ 82 86 ]

في الآية الأولى تقرير بأن الله تعالى إذا ما استحق المخاطبون غضبه وعذابه أخرج لهم دابة من الأرض تخاطبهم وتبكتهم بسبب عدم إيمانهم بتحقيق ما وعد الله .

وفي الثانية والثالثة والرابعة حكاية ما سوف يكون من أمر الكفار والمكذبين حينما تقوم الساعة ، حيث يأمر الله تعالى بحشر المكذبين بآياته من كل أمة وسوقهم إليه فيسألهم سؤال التأنيب والتقريع عن تكذيبهم بآياته بدون علم وعما كانوا يفعلونه في دنياهم ، وحينئذ يبهتون لأن الحجة قد قامت عليهم بظلمهم وبغيهم ولا يجدون ما يدفعون به عن أنفسهم .

أما الآية الخامسة ففيها لفت نظر الكفار إلى مشهد من مشاهد قدرة الله ونواميسه في كونه ، فهو الذي دبر أمر الليل والنهار ليكون الأول للناس سكنا وراحة والآخر مضيئا يقضون حاجاتهم وشؤون معايشهم ، وقد انتهت الآية بتقرير كون ذلك دليلا كافيا لمن حسنت نيته واستجاب إلى الدعوة وآمن بالله وآياته على قدرة الله على كل شيء ومن الجملة على البعث ، والآيات غير منفصلة عن السياق حيث استؤنف فيها حكاية مواقف الجاحدين بالآخرة ومصائرهم .

ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن الآية الخامسة لم ترد أن تقول إن دليل الليل والنهار هو الوحيد على قدرة الله . وإنما ذلك أسلوب من أساليب النظم القرآني وقد مرّ منه أمثلة كثيرة .

تعليق على الدابة المذكورة

في الآية [ 82 ]

في كتب التفسير{[1582]} والحديث أحاديث عديدة معزوة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صدد الدابة وأوصافها وظروف خروجها وهول أثرها . ومن هذه الأحاديث ما ورد في كتب الأحاديث الخمسة الأولى{[1583]} ومنها ما لم يرد . ومما ذكر في الأحاديث أن اسم الدابة هو الجسّاسة . وأنها تخرج من منطقة الحرم المكي ، وأنها ذات شعر ووبر كثيفين وأنها سريعة الجري ، وأنها تخرج في آخر الزمان كعلامة من علامات الساعة وحينما يترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتبكت الناس وتدمغ جباههم فيعرف بذلك المؤمن منهم من الكافر . وأن تميما الداري أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه رآها في جزيرة وأخبرته أن المسيح مقيد بسلاسل من الحديد في دير الجزيرة ينتظر الإذن بالخروج . وعلى كل حال ففي القرآن صراحة بخروج دابة من الأرض بأمر الله إذا ما حق القول على الكافرين بعدم إيقانهم بآيته لتكلمهم أو تبكتهم . ومثل هذه الصراحة موجودة بصورة ما في الأحاديث الصحيحة . والإيمان بذلك واجب على المسلم مثل الإيمان بالأمور المغيبة والخارقة التي أخبر بها القرآن أو ثبت خبرها في أحاديث صحيحة . وإن لم يدرك العقل كنهها مع القول إن ذكر ذلك لا بد له من حكمة ويلمح في الآيات والأحاديث ما يسوغ القول إن إنذار الكفار وتخويفهم من هذه الحكمة لعلهم يرعوون ويرتدعون .

على أن في الأحاديث ونظم الآية ما يسوّغ إيراد بعض الملاحظات . فالأحاديث الصحيحة لا تربط بين الآية وبين خروج الدابة . وتدور في نطاق خروج الدابة في آخر الزمن كعلامة من علامات الساعة . والأحاديث التي تربط بينهما ليست من الصحاح . والضمير في جملة { وإذا وقع القول عليهم } عائد كما هو المتبادر إلى الكفار السامعين للقرآن الذين وصفوا قبل الآية [ 82 ] بالموتى والصمّ والعمي . وهذا يقتضي أن يكون الضمير في ( تكلمهم ) راجع إليهم أيضا . وكثير منهم بل أكثرهم أسلموا والذين ظلوا على كفرهم هلكوا وسيمضي على هلاكهم إلى قيام الساعة دهر لا تحصى أعوامه . ولم تذكر الأحاديث أن الله تعالى سوف يحيى الجاحدين من السابق للقرآن موضوع الخطاب لتكلمهم الدابة ، حيث يبدو من هذا أن الوعيد الموجه إليهم لا يتحقق بالنسبة لأشخاصهم ، وهذا يسوّغ القول إن دابة آخر الزمن التي ذكرت في الأحاديث الصحيحة غير الدابة التي ورد الوعيد بها في الآية القرآنية . وإن الربط بينهما هو من الرواة . وإن الوعيد القرآني قد قصد به بالإضافة إلى ما تضمنه الخبر الإيماني إثارة الرعب في نفوس السامعين وإيذانهم بأنهم إذا استمرار على جحودهم فيكونون من صنف الحيوانات التي لا يصح أن يكلمها إلاّ دابة مثلها ما دام لم ينفعهم إنذار الله المبلغ بواسطة رسوله . ولقد وصف الكافرون المصرون على الجحود في آيات أخرى بوصف { الأنعام } و{ شر الدواب } كما جاء في آيات سورة الأعراف [ 189 ] والأنفال [ 32 33 ] والفرقان [ 44 ] مما قد يصح الاستئناس به على ذلك ، والله أعلم .

أما الدابة التي تخرج في آخر الزمن فما دام أن خبرها وارد في أحاديث صحيحة . فيجب كما قلنا الإيمان بخبرها مثل سائر الأمور الغيبية والخارقة التي ثبت خبرها في القرآن وأحاديث نبوية صحيحة مع ترك تأويلها لله تعالى إذا أعيا العقل تأويلها ومع استشفاف الحكمة في ذكرها ، والتي يتبادر أن منها إثارة الرعب في نفوس الكفار وجاحدي اليوم الآخر . ولا نستبعد إلى هذا أن يكون ظهور مثل هذه الدابة بين يدي الساعة مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم . ومما كان يرويه أهل الكتاب ، والحديث الذي يروى أن تميما الداري أخبر النبي بها من الصحاح ، وقد يكون في ذلك دعم لهذا ، والله تعالى أعلم .

تعليق على مدى الآية

{ ويَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا }

والآيات الثلاث التالية لها

قال بعض المفسرين : إن الحشر هو للجميع وإن الآية الأولى تعني جميعهم فوجا بعد فوج . وقال بعضهم : إنها تعني الرؤساء والمتبوعين لأنهم الأشد استحقاقا لغضب الله . ويتبادر لنا أن القول الثاني هو الأوجه والمتسق مع نظم الآية . فهذه الطبقة هي التي كانت تقود المعارضة وتصد الناس فاستهدفت الآية فيما استهدفته إنذارهم بصورة خاصة ، والله أعلم .

ومع أن كل مفسري السنة مجمعون على أن الحشر هو حشر يوم القيامة فإن مفسري الشيعة يستدلون بالآيات على عقيدة الرجعة التي يدينون بها والتي هي من أهمّ عقائدهم حتى إن بعضهم يكفّرون من لا يؤمن بها والتي يصفون بها رجعة علي أو أئمتهم وأوليائهم مع أعدائهم وهاضمي حقوقهم ، حيث يحيي الله قوما من أوليائهم وقوما من أعدائهم قبل انقضاء الدنيا لينتقم الأولون من الآخرين ، وبقطع النظر عن عقيدتهم العجيبة فإن في الاستدلال عليها بالآيات التي نحن في صددها تعسفا ظاهرا وتكلفا حزبيا صارخا . سواء من ناحية سياقها أم من ناحية فحواها .

وفي تفسير الطبرسي وهو من أكثرهم اعتدالا كلام طويل عجيب في تفصيل وإثبات ذلك ومما قاله : إنه مما تظاهرت أخباره عن أئمة الهدى من آل محمد وإجماعهم حجة . ونحن نريد أن ننزه أي واحد منهم فضلا عن جميعهم من أن يكون قد استنبط ذلك من هذه الآيات .


[1582]:انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
[1583]:انظر كتاب التاج ج 4 ص 176 و ج 5 ص 304 ـ 305.