فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (82)

ثم هدد العباد بذكر طرف من أشراط الساعة وأهوالها فقال :{ إذا و قع القول عليهم } اختلف في معنى هذا الوقوع فقال قتادة : وجب الغضب عليهم ، وقال مجاهد : حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقيل : حق العذاب عليهم ، وقيل : وجب القول السخط ، والمعاني متقاربة ، وقيل المراد بالقول ما نطق به القرآن من مجيء الساعة ، وما فيها من فنون الأهوال التي كانوا يستعجلونها ، وقيل : وقع القول بموت العلماء وذهاب العلم ، ورفع القرآن ، وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف ، وينهوا عن المنكر ، قاله ابن عمر وأخرجه ابن مردويه عنه مرفوعا .

وعن أبي العالية أنه فسر ( وقع القول ) بما أوحي إلى نوع أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ، والحاصل أن المراد ب ( وقع ) وجب وب ( القول ) مضمونه أو أطلق المصدر على المفعول ، أي المقول وجواب الشرط قوله :

{ أخرجنا لهم دابة من الأرض } اختلف في هذه الدابة على أقوال فقيل : إنها فصيل ناقة صالح ، يخرج عند اقتراب الساعة ويكون من أشراطها ، وقيل : هي دابة مزغبة ذات شعر وقوائم طوال ، ويقال لها الجساسة وبه قال ابن عمرو .

وفي التعبير عنها باسم الجنس وتأكيد إبهامه بالتنوين التفخيمي من الدلالة على غرابة شأنها وخروج أوصافها عن طور البيان ما لا يخفى ، وقيل : هي دابة على خلقة بني آدم ، رأسها في السحاب وقوائمها في الأرض ، وقيل : رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هر ، وذنبها ذنب كبش . وقوائمها قوائم بعير ، بين كل مفصل ومفصل إثنا عشر ذراعا ، ولعل ذلك هو الجساسة ، وقيل : الثعبان ، والمشرف على جدار الكعبة التي اقتلعها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة ، والمراد أنها هي التي تخرج في آخر الزمان ، وقيل : هي دابة ما لها ذنب ولها لحية ، وقيل : هي إنسان ناطق متكلم يناظر أهل البدع ويراجع الكفار ، وفيه بعد .

وعن ابن عباس قال : الدابة ذات وبر وريش ؛ مؤلفة فيها من كل لون ، لها أربع قوائم ، تخرج بعقب من الحاج . و قيل غير ذلك مما لا فائدة في التطويل بذكره ، وقد رجح القول الأول القرطبي في تفسيره وقال : هو أصح الأقوال ، واختلف في تعيينها وصفاتها اختلافا كثيرا قد ذكرناه في كتاب التذكرة انتهى ، واختلف من أي موضع تخرج ، فقيل : من جبل الصفا بمكة ، يتصدع فتخرج منه ، قاله ابن عمرو ، وقيل : تخرج من جبل أبي قبيس ، وقيل : لها ثلاث خرجات ، خرجة في بعض البوادي حتى يتقاتل عليها الناس ، وتكثر الدماء ، ثم تمكن ، وتخرج في القرى ، ثم تخرج من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها ، وقيل : تخرج من بين الركن والمقام ، قال ابن عباس تخرج من بعض أودية تهامة ، وقيل : من مسجد الكوفة من حيث فار التنور ، وقيل : من أرض الطائف ، وقيل : من صخرة من شعب أجياد ، قاله ابن عمرو ، وقيل : من صدع في الكعبة ، وقيل : من بحر سدوم قاله وهب بن منبه ، واختلف في معنى قوله :

{ تكلمهم } فقيل : تكلم الموجودين ببطلان الأديان سوى دين الإسلام وقيل : تكلمهم بما يسوءهم ، وقيل : تكلمهم بالعربية بقوله تعالى الآني أن الناس كانوا بآيتنا لا يوقنون ، قاله ابن عباس ، أي بخروجها لأن خروجها من الآيات ، وقال ابن عباس أيضا : تكلمهم تحدثهم ، وعنه أنه سئل هو من التكليم باللسان ، أو من الكلم وهو الجرح ؟ فقال : كل ذلك والله تفعل ، تكلم المؤمن وتكلم الكافر ، أي : تجرحه ، قرأ الجمهور تكلمهم من التكليم ، وتدل عليه قراءة أبي : تنبئهم . وقرئ بفتح الفوقية وسكون الكاف من الكلم وهو الجرح ، قال عكرمة : أي تسمهم وسما وقيل : تجرحهم ، وقيل : قراءة الجمهور مأخوذة من الكلم وهو الجرح ، والتشديد للتكثير ، قاله أبو حاتم .

وأخرج عبد بن حميد ، وابن مردويه عن ابن عمر في الآية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس ذلك حديثا ولا كلاما ، ولكنها سمة تسم من أمرها الله به ، فيكون خروجها من الصفا ليلة منى ، فيصيحون بين رأسها وذنبها ، لا يدحض داحض ، ولا يجرح جارح حتى إذا فرغت مما أمرها الله به فهلك من هلك ونجا من نجا ؛ كان أول خطوة تضعها بأنطاكية " .

وأخرج أحمد : وابن مردويه عن أبي أمامة عن النبي صلى له عليه وسلم قال : " تخرج الدابة فتسم على خراطيمهم ، ثم يعمرون فيكم حتى يشتري الرجل الدابة ، فيقال له : ممن اشتريتها فيقول : من الرجل المخطم " .

وعن حذيفة بن أسيد رفعه قال : " تخرج الدابة من أعظم المساجد حرمة " .

وأخرج أحمد والترمذي وحسنه ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، والبيهقي ، وغيرهم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تخرج دابة الأرض ومعها عصى موسى ، وخاتم سليمان ، فتجلو وجه المؤمن بالخاتم ، وتحطم أنف الكافر بالعصى ، حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر " .

وعن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدابة فقال : لها ثلاث خرجات من الدهر الحديث ، أخرجه البيهقي والحاكم وصححه ، وابن المنذر ، وغيرهم ، وفي صفتها ، ومكان خروجها ، وما تصنعه ، ومتى تخرج أحاديث كثيرة بعضها صحيح . وبعضها حسن ، وبعضها ضعيف .

وأما كونها تخرج ، وكونها من علامات الساعة ، فالأحاديث الواردة في ذلك صحيحة ، ومنها ما هو ثابت في الصحيح كحديث حذيفة مرفوعا " لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات " وذكر منها الدابة فإنه في صحيح مسلم ، وفي السنن الأربع .

وكحديث " بادروا بالأعمال قبل طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، والدابة " فإنه في صحيح مسلم أيضا من حديث أبي هريرة مرفوعا .

وكحديث ابن عمر مرفوعا أن " أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى " فإنه في صحيح مسلم أيضا .

ثم قرأ الجمهور : { إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } بكسر إن على الاستئناف ، وقرئ بفتحها ، قال الأخفش : المعنى على الفتح بأن الناس ، وبها قرأ ابن مسعود وقال أبو عبيد : أي تخبرهم أن الناس الخ .

وعلى هذه فالذي تكلم الناس به هو قوله : أن الناس الخ كما قدمنا الإشارة إلى ذلك ، وأما على الكسر فالجملة مستأنفة كما قدمنا ، ولا يكون كلام الدابة وقد صرح بذلك جماعة من المفسرين ، وجزم به الكسائي والفراء وقال الأخفش إن كسر ( إن ) هو على تقدير القول ، أي تقول لهم إن الناس فيرجع معنى القراءة الأولى على هذا إلى معنى الثانية :

والمراد بالناس في الآية هم الناس على العموم ، فيدخل في ذلك كل مكلف وقيل : المراد الكفار خاصة ، و قيل : كفار مكة ، والأول أولى كما صنع جمهور المفسرين والمعنى ، لا يؤمنون بالقرآن المشتمل على البعث والحساب والعقاب ، وبخروجها ينقطع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . ولا يبقى نائب ولا تائب ولا يؤمن كافر ، كما أوحى الله إلى نوح { أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن }