قوله تعالى : { لا تمدن عينيك } ، يا محمد ، { إلى ما متعنا به أزواجاً } ، أصنافا ، { منهم } أي : من الكفار متمنيا لها نهى الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن الرغبة في الدنيا ومزاحمة أهلها عليها . { ولا تحزن عليهم } ، أي : لا تغنم على ما فاتك من مشاركتهم في الدنيا . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا أبو جعفر أحمد بن محمد ابن العنزي ، حدثنا عيسى بن نصر ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا جهم بن أوس ، قال : سمعت عبد الله بن مريم - مر به عبد الله بن رستم في موكبه ، فقال لابن أبي مريم : إني لاشتهي مجالستك وحديثك ، فلما مضى قال ابن مريم - سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تغبطن فاجرا بنعمته ، فإنك لا تدري ما هو لاق بعد موته ، إن له عند الله قاتلا لا يموت " ، فبلغ ذلك وهب بن منبه فأرسل إليه وهب أبا داود الأعور ، قال : يا أبا فلان ما قاتلا لا يموت ؟ قال ابن أبي مريم : النار .
أخبرنا أبو منصور محمد بن عبد الملك المظفر السرخسي ، أنبأنا أبو سعيد أحمد بن محمد ابن الفضل الفقيه ، حدثنا أبو الحسن بن إسحاق ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي ، أنبأنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم " . وقيل : هذه الآية متصلة بما قبلها لما من الله تعالى عليه بالقرآن نهاه عن الرغبة في الدنيا . روي أن سفيان بن عيينة - رحمه الله - تأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي : لم يستغن بالقرآن . فتأول هذه الآية . قوله تعالى : { واخفض جناحك } ، لين جناحك { للمؤمنين } ، وارفق بهم ، والجناحان لابن آدم جانباه .
وقوله { لا تمدن عينيك } الآية ، حكى الطبري ، عن سفيان بن عيينة أنه قال هذه الآية أمر بالاستغناء بكتاب الله عن جميع زينة الدنيا ، وهي ناظرة إلى قوله عليه السلام :
«ليس منا من لم يتغن بالقرآن »{[7220]} أي يستغني به .
قال القاضي أبو محمد : فكأنه قال : ولقد آتيناك عظيماً خطيراً فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعاً من هؤلاء الكفرة ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أعطي أفضل مما أعطي فقد عظم صغيراً ، وصغر عظيماً »{[7221]} وكأن «مد العين » يقترن به تمنَّ ، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا ب «مد العين » و «الأزواج » هنا الأنواع والأشباه ، وقوله { ولا تحزن عليهم } أي لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم ، واصرف وجهك وتحفيك إلى من آمن بك { واخفض } لهم { جناحك } وهذه استعارة بمعنى لين جناحك ووطىء أكنافك . «والجناح » الجانب والجنب ، ومنه { واضمم يدك إلى جناحك }{[7222]} [ طه : 22 ] فهو أمر بالميل إليهم ، والجنوح الميل .
استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } [ سورة الحجر : 85 ] ، ومن تساؤل يجيش في النّفس عن الإملاء للمكذّبين في النّعمة والتّرف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة { لا تمدن عينيك } بياناً لما يختلج في نفس السامع من ذلك ، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن الّتي قبلها فصل البيان عن المبيّن .
ولولا أن الجملة الّتي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذٍ مجرد نهي لا اتّصال له بما قبله ، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه ( 129 131 ) : { فاصبر على ما يقولون وسبّح بِحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ومن ءَاناء اللّيل فسبّح وأطراف النّهار لعلّك ترضى ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الحياة } فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة الّتي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم .
والمَدّ : أصله الزيادة . وأطلق على بسط الجسم وتَطويله . يقال : مَدّ يده إلى كذا ، ومدّ رجله في الأرض . ثم استعير للزيادة من شيء . ومنه مدد الجيش ، ومدّ البحر ، والمد في العمر . وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة . واستعير المدّ هنا إلى التّحديق بالنظر والطموح به تشبيهاً له بمدّ اليد للمتناول ، لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم ، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتّبعوا ما آتيناك ولكنّهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم .
والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معناه المشهور ، أي الكفّار ونسائهم . ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتّع لاستكمالها جميع اللّذات والأنس . ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب . فوجه ذكره في الآية أن التمتّع الّذي تمتدّ إلى مثله العين ليس ثابتاً لجميع الكفّار بل هو شأن كبرائهم ، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش .
والنّهي عن الحزن عليهم شامل لكلّ حال من أحوالهم من شأنها أن تحْزن الرّسول عليه الصلاة والسلام وتؤسفه . فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى : { فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } [ سورة الكهف : 6 ] . ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حلّ بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة ، فلعلّ رسول الله أن يتحسّر على إصرارهم حتى حلّ بهم ما حلّ من العذاب . ففي هذا النهي كناية عن قلّة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحلّ بهم ما يثير الحزن لهم ، وكناية عن رحمة الرسول بالنّاس .
ولما كان هذا النّهي يتضمنّ شدّة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله { واخفض جناحك للمؤمنين } . وهو اعتراض مراد منه الاحتراس . وهذا كقوله : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ سورة الفتح : 29 ] .
وخفض الجناح تمثيل للرفق والتواضع بحال الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع حفض جناحه يريد الدنوّ ، وكذلك يصنع إذا لاعب أنثاه فهو راكن إلى المسالمة والرفق ، أو الذي يتهيأ لحضن فراخه . وفي ضمن هذه التمثيلية استعارة مكنية ، والجناح تخييل . وقد بسطناه في سورة الإسراء في قوله : { واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة } [ سورة الإسراء : 24 ] وقد شاعت هذه التمثيلية حتى صارت كالمثَل في التواضع واللّين في المعاملة . وضد ذلك رفع الجناح تمثيل للجفاء والشدّة .
ومن شعر العلامة الزمخشري يخاطب مَن كان متواضعاً فظهر منه تكبرّ ( ذكره في سورة الشعراء ) :
وأنْتَ الشّهيرُ بخفض الجناح *** فلا تكُ في رفعه أجدلاً
وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى : { فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين } [ سورة الحجر : 94 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم}، يعني: أصنافا منهم من المال، {ولا تحزن عليهم}، إن تولوا عنك، {واخفض جناحك للمؤمنين} يقول: لين جناحك للمؤمنين، فلا تغلظ لهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تتمنينّ يا محمد ما جعلنا من زينة هذه الدنيا متاعا للأغنياء من قومك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، يتمتعون فيها، فإن مِنْ ورائهم عذابا غليظا.
"وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ" يقول: ولا تحزن على ما مُتّعوا به فعجّل لهم، فإن لك في الآخرة ما هو خير منه، مع الذي قد عَجّلنا لك في الدنيا من الكرامة بإعطائنا السبع المثاني والقرآن العظيم يقال منه: مَدّ فلانٌ عينه إلى مال فلان: إذا اشتهاه وتمناه وأراده. وذُكر عن ابن عيينة أنه كان يتأوّل هذه الآية قولَ النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنّا مَنْ لَمْ يَتَغَنّ بالقُرآنِ»: أي من لم يستغن به، ويقول: ألا تَرَاهُ يَقُولُ: "وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعا مِنَ المَثانِي والقُرآنَ العَظِيمَ لا تَمُدّنّ عَيْنَيْكَ إلى ما مَتّعْنا بِهِ أزْوَاجا مِنْهُمْ" فأمره بالاستغناء بالقرآن عن المال. قال: ومنه قول الآخر: من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أعطي أفضل مما أعطي فقد عظّم صغيرا وصغّر عظيما.
"وَاخْفِضْ جَناحَكَ للْمُؤْمِنِينَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وألِن لمن أمن بك واتبعك واتبع كلامك، وقرّبهم منك، ولا تَجْفُ بهم، ولا تَغْلُظ عليهم. يأمره تعالى ذكره بالرفق بالمؤمنين. والجناحان من بني آدم: جنباه، والجناحان: الناحيتان، ومنه قول الله تعالى ذكره: "وَاضْمُمْ يَدَكَ إلى جنَاحِكَ" قيل: معناه: إلى ناحيتك وجنبك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم} يحتمل المراد بقوله: {عينيك} نفس العين. ثم يحتمل وجهين:
أحدهما: نهى رسوله أن ينظر إلى ما متع أولئك مثل نظرهم، لأنهم ظنوا أنهم إنما متعوا هذه الأموال في الدنيا لخطرهم وقدرهم عند الله، وعلى ذلك قال من قال: {ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا} (الكهف: 36) وقال: {ولئن رجعت إلى ربي} الآية (فصلت: 50) ونحوه. ظنوا أنهم إنما متعوا في هذه الدنيا لخطرهم وقدرهم عند الله، لذلك قالوا ما قالوا، فنهاه أن ينظر إلى ذلك بعين الذين نظروا هم إليه، ولكن بالاعتبار.
والثاني: نهاه أن ينظر إلى ذلك نظر الاستكبار والتجبر على المؤمنين والاستهزاء بهم على ما نظروا هم، لأنهم بما متعوا من أنواع المال استكبروا على الناس، واستهزأوا بهم؛ إذ البصر قد يقع من غير تكلف، فيصير كأنه نهاه عن الرغبة والاختيار في ما متعوا فيه، لأن ما متعوا به هو ما ذكر: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} (التوبة: 55 و 85) وقال في آية أخرى: {لنفتنهم فيه} (طه: 131). وقوله تعالى: {لا تمدن عينيك إلى ما} متعوا فإنهم إنما متعوا لما ذكر.
ويحتمل النهي عن مد العين لا العين نفسها، ولكن نفسه. كأنه قال: لا تمنين نفسك في ما متعوا هم، فلا ترغبنهما في ذلك؛ فإنه ليس يوسع ذلك عليهم لخطرهم وقدرهم، ولكن ليعلم أن ليس لذلك خطر عند الله وقدر حين أعطى من افترى على الله، وجحد نعمه وفضله...
{أزواجا منهم} أي أصنافا من الأموال وألوانا من النعم. قال بعضهم: {أزواجا منهم} أي الأغنياء منهم... أي لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به قوما منهم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة...
وقال الحسن "لا تحزن عليهم "على ما يصيرون إليه من النار بكفرهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمنّ له {إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مّنْهُمْ} أصنافاً من الكفار.
فإن قلت: كيف وصل هذا بما قبله؟ قلت: يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي إليها حقيرة ضئيلة، وهي القرآن العظيم؛ فعليك أن تستغني به، ولا تمدن عينيك إلى متاع الدنيا... {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي لا تتمنّ أموالهم ولا تحزن عليهم أنهم لم يؤمنوا فيتقوّى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون، وتواضع لمن معك من فقراء المؤمنين وضعفائهم، وطب نفساً عن إيمان الأغنياء والأقوياء.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... فكأنه قال: ولقد آتيناك عظيماً خطيراً فلا تنظر إلى غير ذلك من أمور الدنيا وزينتها التي متعنا بها أنواعاً من هؤلاء الكفرة... وكأن «مد العين» يقترن به تمن، ولذلك عبر عن الميل إلى زينة الدنيا ب «مد العين» و «الأزواج» هنا الأنواع والأشباه. وقوله {ولا تحزن عليهم} أي لا تتأسف لكفرهم وهلاكهم، واصرف وجهك وتحفيك إلى من آمن بك {واخفض} لهم {جناحك} وهذه استعارة بمعنى لين جناحك ووطئ أكنافك.
اعلم أنه لما عرف رسوله عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين، وهو أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم، نهاه عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها...
قال ابن عباس "لا تمدن عينيك "أي لا تتمن ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا، وقرر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان ما أوتيه وما سيؤتاه أعظم ما أوتيه مخلوق، اتصل به قوله: {لا تمدن عينيك} أي مداً عظيماً بالتمني والاشتهاء المصمم، ولذلك ثنى العين احترازاً عن حديث النفس {إلى ما متعنا} أي على عظمتنا {به أزواجاً} أي أصنافاً {منهم} أي أهل الدنيا؛ أو يقال: إنه لما كان المقصود لكل ذي لب إنما هو التبليغ بدار الفناء إلى دار البقاء، المؤكد إتيانها في الآية السابقة، وكان القرآن -كما تقدم- كفيلاً بذلك، وسلاه صلى الله عليه وعلى آله وسلم عما يؤذونه من أقوالهم، وتبين من ذلك علو درجته، توقع السامع ذكر ما أسبغ عليه من النعم فقال تعالى؛ أو يقال: إنه لما أمره سبحانه بالصبر على أذاهم، علل ذلك مما معناه أنهم خلقه، وأنه منفرد بالخلق، وهو بليغ العلم بأفعالهم مريد لها، فليس الفعل في الحقيقة إلا له، وعلى المحب أن يرضى بفعل حبيبه من حيث إنه فعله، ولما كان التقدير: فهو الذي خلقهم، وعلم قبل خلقهم ما يفعلون، عطف عليه تسلية له صلى عليه وعلى آله وسلم قوله {ولقد آتيناك} أي بما لنا من العظمة كما أتينا صالحاً ما تقدم {سبعاً من المثاني} يكون كل سبع منها كفيلاً بإغلاق باب من أبواب النيران السبعة، وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة، زيادة في حفظها، وتبركاً بلفظها، وتذكراً لمعانيها، تخصيصاً لها عن بقية الذكر الذي تكلفنا بحفظه {و} آتيناك {القرآن العظيم} الجامع لجميع معاني الكتب السماوية المتكفلة بخيري الدارين مع زيادات لا تحصى، المشار إلى عظمته أول السورة بالتنوين ووصفه بأنه مبين للبراهين الساطعة على نبوتك، والأدلة القاطعة على رسالتك، الدالة على الله الموصلة إليه، والآية مع ذلك دليل على العلم المختتم به ما قبلها، فكأنه قيل: فماذا أعمل؟ فقيل في معنى {ذرهم يأكلوا}: {لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم} اكتفاء بهذا البلاغ العظيم الذي من تحلى به وأشربه قلبه أراه معايب هذه الدار فبغضه فيها وأشرف به على ما أمامه {ولا تحزن عليهم} لكونهم لم يؤمنوا فيخلصوا أنفسهم من النار، ويقوى بهم جانب الإسلام، وكأن هذا هو الصفح المأمور به، وهو الإعراض عنهم أصلاً ورأساً إلا في أمر البلاغ.
ولما أمره في عشرتهم بما أمر، أتبعه أمره بعشرة أصحابه رضي الله عنهم بالرفق واللين فقال تعالى: {واخفض} أي طأطئ {جناحك للمؤمنين} أي العريقين في هذا الوصف، واصبر نفسك معهم، واكتفِ بهم، فإن الله جاعل فيهم البركة، وناصرك ومعز دينك بهم، وغير محوجك إلى غيرهم، فمن أراد شقوته فلا تلتفت إليهم، وهذا كناية عن اللين، وأصله أن الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه ثم قبضه عليه...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
...وفي التعبير عما أوتوه (بالمتاع) إنباء عن وشك زوالها عنهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم).. والعين لا تمتد. إنما يمتد البصر أي يتوجه. ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع. وهي صورة طريفة حين يتصورها المتخيل. والمعنى وراء ذلك ألا يحفل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك المتاع الذي آتاه الله لبعض الناس رجالا ونساء -امتحانا وابتلاء- ولا يلقي إليه نظرة اهتمام. أو نظرة استجمال. أو نظرة تمن. فهو شيء زائل وشيء باطل؛ ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم. وهذه اللفتة كافية للموازنة بين الحق الكبير والعطاء العظيم الذي مع الرسول، والمتاع الصغير الذي يتألق بالبريق وهو ضئيل. يليها توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إهمال القوم المتمتعين، والعناية بالمؤمنين، فهؤلاء هم أتباع الحق الذي جاء به، والذي تقوم عليه السماوات والأرض وما بينهما؛ وأولئك هم أتباع الباطل الزائل الطارئ على صميم الوجود.. (ولا تحزن عليهم).. ولا تهتم لمصيرهم السيئ الذي تعلم أن عدل الله يقتضيه، وأن الحق في الساعة يقتضيه. ودعهم لمصيرهم الحق. (واخفض جناحك للمؤمنين).. والتعبير عن اللين والمودة والعطف بخفض الجناح تعبير تصويري، يمثل لطف الرعاية وحسن المعاملة ورقة الجانب في صورة محسوسة على طريقة القرآن الفنية في التعبير.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني لما يثيره المقصود من قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} [سورة الحجر: 85]، ومن تساؤل يجيش في النّفس عن الإملاء للمكذّبين في النّعمة والتّرف مع ما رمقوا به من الغضب والوعيد فكانت جملة {لا تمدن عينيك} بياناً لما يختلج في نفس السامع من ذلك، ولكونها بهذه المثابة فصلت عن الّتي قبلها فصل البيان عن المبيّن. ولولا أن الجملة الّتي وقعت قبلها كانت بمنزلة التمهيد لها والإجمال لمضمونها لعطفت هذه الجملة لأنها تكون حينئذٍ مجرد نهي لا اتّصال له بما قبله، كما عطفت نظيرتها في قوله تعالى في سورة طه (129 131): {فاصبر على ما يقولون وسبّح بِحمد ربّك قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها ومن ءَاناء اللّيل فسبّح وأطراف النّهار لعلّك ترضى ولا تمدنّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا...} فلما فصلت الجملة هنا فهم أن الجملة الّتي قبلها مقصودة التمهيد بهذه الجملة ولو عطفت هذه لما فهم هذا المعنى البديع من النظم. والمَدّ: أصله الزيادة. وأطلق على بسط الجسم وتَطويله. يقال: مَدّ يده إلى كذا، ومدّ رجله في الأرض. ثم استعير للزيادة من شيء. ومنه مدد الجيش، ومدّ البحر، والمد في العمر. وتلك إطلاقات شائعة صارت حقيقة. واستعير المدّ هنا إلى التّحديق بالنظر والطموح به تشبيهاً له بمدّ اليد للمتناول، لأن المنهي عنه نظر الإعجاب مما هم فيه من حسن الحال في رفاهية عيشهم مع كفرهم، أي فإن ما أوتيته أعظم من ذلك فلو كانوا بمحل العناية لاتّبعوا ما آتيناك ولكنّهم رضوا بالمتاع العاجل فليسوا ممن يعجب حالهم. والأزواج هنا يحتمل أن يكون على معناه المشهور، أي الكفّار ونسائهم. ووجه تخصيصهم بالذكر أن حالتهم أتم أحوال التمتّع لاستكمالها جميع اللّذات والأنس. ويحتمل أن يراد به المجاز عن الأصناف وهو استعمال أثبته الراغب. فوجه ذكره في الآية أن التمتّع الّذي تمتدّ إلى مثله العين ليس ثابتاً لجميع الكفّار بل هو شأن كبرائهم، أي فإن فيهم من هم في حال خصاصة فاعتبر بهم كيف جمع لهم الكفر وشظف العيش. والنّهي عن الحزن عليهم شامل لكلّ حال من أحوالهم من شأنها أن تحْزن الرّسول عليه الصلاة والسلام وتؤسفه. فمن ذلك كفرهم كما قال تعالى: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً} [سورة الكهف: 6]. ومنه حلول العذاب بهم مثل ما حلّ بهم يوم بدر فإنهم سادة أهل مكة، فلعلّ رسول الله أن يتحسّر على إصرارهم حتى حلّ بهم ما حلّ من العذاب. ففي هذا النهي كناية عن قلّة الاكتراث بهم وعن توعدهم بأن سيحلّ بهم ما يثير الحزن لهم، وكناية عن رحمة الرسول بالنّاس. ولما كان هذا النّهي يتضمنّ شدّة قلب وغلظة لا جرم اعترضه بالأمر بالرفق للمؤمنين بقوله {واخفض جناحك للمؤمنين}. وهو اعتراض مراد منه الاحتراس. وهذا كقوله: {أشداء على الكفار رحماء بينهم} [سورة الفتح: 29].
وفي هذه الآية تمهيد لما يجيء بعدها من قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} [سورة الحجر: 94].
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...إن الله يريد للقادة أن ينفتحوا على القاعدة الإيمانية، باعتبار الإيمان قيمةً ترفع المؤمن إلى أعلى درجات السلّم في المجتمع الإيماني، بعيداً عن كل اعتبارات المال والجاه، وإلاّ كان القائد منفصلاً عن الخط، وبعيداً عن أجواء الإيمان وأجواء الله. وهذا ما لا يريده الله للعاملين في سبيله الذين يجب أن يعطوا المؤمن كل القوّة، لأن ذلك الموقف هو الذي يحقق لحركة الإيمان القوّة، حيث يشعر المؤمن بالمعنى العميق لقيمة الإيمان، وحيث يتحدى القائد امتيازات المجتمع المنحرف، بالوقوف إلى جانب من لا يملك تلك الامتيازات من المؤمنين.