الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

وقوله سبحانه : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } [ الحجر : 88 ] .

حكى الطبريُّ عن سفيانَ بْنِ عُيَيْنة ؛ أَنه قال : هذه الآيةُ آمرة بالاستغناء بكتابِ اللَّهِ عَنْ جميع زينَةِ الدنْيَا .

قال ( ع ) : فكأنه قال : آتَينَاك عظيماً خطيراً ، فلا تَنظر إِلى غيْرِ ذلك من أمورِ الدنيا وزينَتِها التي مَتَّعْنا بها أنواعاً من هؤلاءِ الكَفَرَةِ ، ومن هذا المعنَى : قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ أُوتِيَ القُرْآنَ ، فَرَأَى أَنَّ أَحَداً أُعْطِيَ أَفْضَلَ مِمَّا أُعْطِيَ ، فَقَدْ عَظَّمَ صَغِيراً وَصَغَّرَ عظيماً ) .

( ت ) : وفي «صحيح مسلم » عن أبي سعيد قال : قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَخَطَبَ النَّاسَ ، فَقَالَ : ( لا وَاللَّهِ ، مَا أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، أَيُّهَا النَّاسُ ، إِلاَّ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا الحديث ، وفي رواية : ( أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا ) ، قَالُوا : وَمَا زَهْرَةُ الدُّنْيَا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : ( بَرَكَاتُ الأَرْضِ ) الحديث ، وفي روايةٍ : ( إِنَّ مِمَّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا ) الحديثَ ، انتهى . والأحاديثُ في هذا البابِ أكثرُ من أنْ يحصيها كتابٌ .

قال الغَزَّالِيُّ في «المنهاج » : وإِذا أنعم اللَّهُ عَلَيْكَ بنعمةَ الدِّينِ ، فإِيَّاكَ أَنْ تَلتفتَ إِلى الدنيا وحُطَامها ، فإِن ذلك منك لا يكُونُ إِلاَّ بضَرْبٍ من التهاوُنِ بما أولاكَ مَوْلاَكَ مِنْ نعمِ الدارَيْنِ ؛ أَمَا تَسمعُ قولَهُ تعالَى لسيِّد المرسلين : { وَلَقَدْ آتيناك سَبْعًا مِّنَ المثاني والقرآن العظيم * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } [ الحجر : 87 و88 ] ، تقديره : إِن من أوتي القرآن العظيمَ حُقَّ له ألاَّ ينظر إِلى الدنيا الحقيرةِ نظرةً باستحلاء ، فضلاً عن أنْ يكون له فيها رغبةٌ ، فليلتزم الشكْرَ على ذلك ، فإِنه الكرامة التي حَرَصَ عليها الخليلُ لأَبيهِ ، والمصطفى عليه السلام لعمِّه ، فلم يفعلْ ، وأما حطامُ الدنيا ، فإِن اللَّه سبحانه يصبُّه علَى كلِّ كافرٍ وفرعونٍ وملحِدٍ وزنديقٍ وجاهلٍ وفاسقٍ الذين هم أهْوَنُ خَلْقِهِ عليه ، ويَصْرِفُه عن كلِّ نبيٍّ وصفيٍّ وصِدِّيقٍ وعالمٍ وعابدٍ ؛ الذين هم أَعَزُّ خَلْقِهِ عليه ، حتى إِنهم لا يكادُونَ يُصِيبُونَ كِسْرةً وخِرْقَةً ، ويمنُّ عليهم سبحانه بأَلاَّ يلطخهم بقَدرها ، انتهى .

وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه » : قوله تعالى : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ } [ الحجر : 88 ] المعنى : أعطيناكَ الآخِرَةَ ، فلا تنظُرْ إِلى الدنيا ، وقد أعطيناك العلْم ، فلا تتشاغلْ بالشهواتِ ، وقد مَنَحْنَاكَ لَذَّةَ القَلْب ، فلا تنظر إِلى لذة البَدَن ، وقد أعطينَاكَ القرآن ، فاستغن به ، فمَنِ استغنى به ، لا يطمَحُ بنظره إِلى زخارف الدنيا ، وعنده مَعَارِفُ المولَى ، حَيِيَ بالباقِي ، وفَنِيَ عن الفاني . انتهى .