مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{لَا تَمُدَّنَّ عَيۡنَيۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦٓ أَزۡوَٰجٗا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَيۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (88)

أما قوله تعالى { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } فاعلم أنه لما عرف رسوله عظم نعمه عليه فيما يتعلق بالدين ، وهو أنه آتاه سبعا من المثاني والقرآن العظيم ، نهاه عن الرغبة في الدنيا فحظر عليه أن يمد عينيه إليها رغبة فيها . وفي مد العين أقوال :

القول الأول : كأنه قيل له إنك أوتيت القرآن العظيم فلا تشغل سرك وخاطرك بالالتفات إلى الدنيا ومنه الحديث وقال أبو بكر : من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا ، وقيل : وافت من بعض البلاد سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير ، فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة ، فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فقال الله تعالى لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع .

القول الثاني : قال ابن عباس " لا تمدن عينيك " أي لا تتمن ما فضلنا به أحدا من متاع الدنيا ، وقرر الواحدي هذا المعنى فقال : إنما يكون مادا عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إلى الشيء تدل على استحسانه وتمنيه ، وكان صلى الله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا ، وروي أنه نظر إلى نعم بني المصطلق ، وقد عبست في أبوالها وأبعارها فتقنع في ثوبه وقرأ هذه الآية . وقوله عبست في أبوالها وأبعارها هو أن تجف أبوالها وأبعارها على أفخاذها إذا تركت من العمل أيام الربيع فتكثر شحومها ولحومها وهي أحسن ما تكون .

والقول الثالث : قال بعضهم " ولا تمددن عينيك " أي لا تحسدن أحدا على ما أوتي من الدنيا قال القاضي : هذا بعيد ، لأن الحسد من كل أحد قبيح ، لأنه إرادة لزوال نعم الغير عنه ، وذلك يجري مجرى الاعتراض على الله تعالى والاستقباح لحكمه وقضائه ، وذلك من كل أحد قبيح ، فكيف يحسن تخصيص الرسول صلى الله عليه وسلم به ؟

أما قوله تعالى { أزواجا منهم } قال ابن قتيبة أي أصنافا من الكفار ، والزوج في اللغة الصنف ثم قال { ولا تحزن عليهم } إن لم يؤمنوا فيقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون . والحاصل أن قوله { ولا تمدن عينيك إلا ما متعنا به أزواجا منهم } نهي له عن الالتفات إلى أموالهم وقوله { ولا تحزن عليهم } نهي له عن الالتفات إليهم وأن يحصل لهم في قلبه قدر ووزن .

ثم قال { واخفض جناحك للمؤمنين } الخفض : معناه في اللغة نقيض الرفع ، ومنه قوله تعالى في صفة القيامة { خافضة رافعة } أي أنها تخفض أهل المعاصي ، وترفع أهل الطاعات ، فالخفض معناه الوضع . وجناح الإنسان يده ، قال الليث : يدا الإنسان جناحاه ، ومنه قوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } وخفض الجناح كناية عن اللين والرفق والتواضع ، والمقصود أنه تعالى لما نهاه عن الالتفات إلى أولئك الأغنياء من الكفار أمره بالتواضع لفقراء المسلمين ، ونظيره قوله تعالى { أذلة المؤمنين أعزة على الكافرين } وقال في صفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أشداء على الكفار رحماء بينهم } .