قال نوح : { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } أي : بيان من ربي { وآتاني رحمة } ، أي : هدى ومعرفة ، { من عنده فعميت عليكم } ، أي : خفيت والتبست عليكم . وقرأ حمزة و الكسائي وحفص : { فعميت عليكم } بضم العين وتشديد الميم ، أي : شبهت ولبست عليكم . { أنلزمكموها } ، أي : أنلزمكم البينة والرحمة ، { وأنتم لها كارهون } ، لا تريدونها . قال قتادة : لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا قومهم الإيمان لألزموهم ولكن لم يقدروا .
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على يقين وأمر جلي ، ونبوة صادقة ، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي : خفيت عليكم ، فلم تهتدوا إليها ، ولا عرفتم قدرها ، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها ، { أَنُلْزِمْكُمُوهَا } أي : نَغْضبكم{[14570]} بقبولها وأنتم لها كارهون .
فُصلت جملة { قال يا قوم } عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدّمناه عند قوله تعالى : { وإذ قال ربك للملائكة إني جاعِلٌ في الأرض خليفةٌ } في سورة [ البقرة : 30 ] ، فهذه لما وقعت مقابلاً لكلام محكي يقال فصلت الجملة ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفاً في قوله : { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } [ هود : 27 ] .
وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه ، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف ، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيراً لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلاّ خيراً .
وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدلّلاً بأنهم ما رأوا له مزية وفضلاً ، وما رأوا أتباعه إلاّ ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه ، سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لِردّ أقوالهم ، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته ، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به .
فقوله : { أرأيتم إن كنتُ على بينة من ربي } إلى آخره . معناه إن كنتُ ذا برهان واضح ، ومتصفاً برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى ، فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها ، أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها . وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملاً بريئاً من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته .
و { أرأيتم } ، استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد . وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غيرَ عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسدّ مفعولي ( رأيتُم ) ، ولذلك كان معناه آيلاً إلى معنى أخبروني ، ولكنّه لا يستعمل إلاّ في طلب مَن حاله حالُ من يجحد الخبر ، وقد تقدم معناه في قوله تعالى : { قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتةً أو جهرة } في سورة [ الأنعام : 47 ] .
وجملة { إن كنتُ على بينة من ربي } إلى { قوله فعَميت عليكم } معترضة بين فعل { أرأيتم } ومَا سدّ مسد مفعوليه .
والاستفهام في { أنلزمكموها } إنكاري ، أي لا نكرهكم على قبولها ، فعُلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة . والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة .
والبينة : الحجة الواضحة ، وتطلق على المعجزة ، فيجوز أن تكون معجزته الطوفان ، ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر ، فإن بعثة الرسل عليهم السّلام لا تخلو من معجزات .
والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه ، مع ما صحبها من البيّنة لأنّها من تمامها ، فعطف ( الرحمة ) على ( البينة ) يقتضي المغايرة بينهما ، وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به ، ولذلك لما أعيد الضمير في قوله : { فعميت } أعيد على ( الرحمة ) لأنها أعم .
و { عليكم } متعلقة ب ( عميت ) وهو حرف تتعدى به الأفعال الدّالة على معنى الخفاء ، مثل : خفي عليك . ولما كان عمي في معنى خفي عُدّي ب ( على ) ، وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن ، أي قوة ملازمة البينة والرحمة له .
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدّلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به .
ومعنى { فعميت } فخفيت ، وهو استعارة ، إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه . ولمّا ضمّن معنى : الخفاء عدي فعل ( عميت ) بحرف ( على ) تجريداً للاستعارة . وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى : { وآتينا ثمود الناقة مبصرةً } [ الإسراء : 59 ] ، أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة ، ولذلك سمّي جحدهم إياها ظلماً فقال : { فظلموا بها } [ الإسراء : 59 ] .
ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقاً لمقابلة قولهم في مجادلتهم { ما نراك إلاّ بشراً } و{ ما نراك اتّبعك } و{ ما نرى لكم علينا من فضل } [ هود : 27 ] . فقابل نوح عليه السلام كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العَمى .
وعطف ( عَميت ) بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم . وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل .
وجملة { أنلزمكموها } سادة مسد مفعولي { أرأيتم } لأن الفعل علّق عن العمل بدخول همزة الاستفهام .
وجوابُ الشرط محذوف دلّ عليه فعل { أرأيتم } وما سدّ مسد مفعوليه . وتقدير الكلام : قال يا قوم إن كنت على بيّنة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون .
وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فُرض وقوعه لكان له أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يُهيب بهم . والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم .
والاستفهام إنكاري ، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضاً عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله ، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم .
والكاره : المبغض لشيء . وعدّي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة ، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبّر فيها .
وتقديم المجرور على { كارهون } لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها . والمقصود من كلامه بعْثهم على إعادة التأمل في الآيات . وتخفيض نفوسهم . واستنزالُهم إلى الإنصاف . وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي}، يعني بيان من ربي، {وآتاني رحمة}، يعني وأعطاني نعمة، {من عنده} وهو الهدى، {فعميت عليكم} يعني فخفيت عليكم الرحمة، {أنلزمكموها وأنتم لها}، يعني الرحمة، وهي النعمة والهدى، {كارهون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة:"يا قَوْمِ أرأيْتُمْ إنْ كُنْتُ على بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي": على علم ومعرفة وبيان من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ من إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها. "وآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ "يقول: ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني. "فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ".
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: «فَعَمِيَتْ» بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى: فعميت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها فتقروا بها وتصدقوا رسولكم عليها.
وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين: "فَعُمّيَتْ عَلَيْكُمْ "بضمّ العين وتشديد الميم، اعتبارا منهم ذلك بقراءة عبد الله، وذلك أنهما فيما ذكر في قراءة عبد الله: «فعماها عليكم»...
وقوله: "أنُلْزِمُكْمُوها وأنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ" يقول: أنأخذكم بالدخول في الإسلام وقد عماه الله عليكم، "لها كَارِهُونَ" يقول: وأنتم لإلزامناكموها كارهون، يقول: لا نفعل ذلك، ولكن نكِل أمركم إلى الله حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ) أي على بيان من ربي أو على حجة وبرهان في ما آتاني من رحمة. والرحمة تحتمل النبوة لأنهم كانوا ينكرون رسالته لما أنه بشر مثلهم، فكيف خُص هو بها دونهم وهو مثلهم؟ فيقول: (وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ) أي النبوة. وآتاني أيضا على ذلك بينة وحجة. وتحتمل الرحمة الدين الذي كان يدعوهم إليه، والله أعلم...
(أَنُلْزِمُكُمُوهَا) أي أنوجبها عليكم؟ وهي التي ذكر أنه آتاه البينة التي ذكر أيضا والدين الذي كان يدعوهم إليه، أي لا نوجبها عليكم، ولا نلزمها (وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) بلا حجة ولا برهان (وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أي لا نلزمها لكم بلا حجة شئتم، أو أبيتم ولكن بحجة. وفيه أن الدين لا يقبل بالإكراه...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أحدهما -خفيت عليكم، لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي إليها.
والآخر- أن يكون المعنى عميتم عنها، وأضاف العمى إلى البينة لما عموا عنها لضرب من المجاز، لأن المعنى ظاهر في ذلك... ومن قرأ بتشديد الميم وضم العين أضاف التعمية إلى غيرهم ممن صدهم عن النظر فيها وأغواهم في ذلك من الشياطين والمضلين عن الحق...
" أنلزمكموها وأنتم لها كارهون "أنضطركم إلى موجب البينة مع العلم مع كراهتكم لذلك فيبطل تكليفكم الاستدلال بالبينة المؤدية إلى المعرفة، أي أضطركم إلى حال الضرورة. ووجه آخر -وهو أن يكون المراد إن الذي علي أن أدل بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى المعرفة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الصُّبحُ لا خَلَلَ في ضيائه لِكَوْن الناظرين عمياناً، والسيفُ لا خَلَلَ في مضَائِه لِكَوْنِ الضاربين صبياناً... وكيف لِبَشَرٍ من قدرةٍ على هداية مَنْ أَضَلَّه اللَّهُ- ولو كان نبيَّا؟ هيهات لا ينفع مع الجاهل نُصحٌ، ولا ينجح في المُصِرِّ وعظٌ!...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَرَءيْتُمْ} أخبروني {إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ} على برهان {مّن رَّبّى} وشاهد منه يشهد بصحة دعواي {وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ} بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة: المعجزة، وبالرحمة: النبوّة.
فإن قلت: فقوله: {فَعُمّيَتْ} ظاهر على الوجه الأوّل، فما وجهه على الوجه الثاني؟ وحقه أن يقال فعميتا؟ قلت: الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة: ومعنى عميت خفيت. وقرىء: «فعميت» بمعنى أخفيت. وفي قراءة أبي «فعماها عليكم»
فإن قلت: فما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد.
فإن قلت: فما معنى قراءة أبي؟ قلت: المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه قوله: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون} يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً. ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك: أنلزمكم إياها.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآية كأنه قال: أرأيتم إن هداني الله وأضلكم أأجبركم على الهدى وأنتم كارهون له معرضون عنه، واستفهامه في هذه الآية أولاً وثانياً على جهة التقرير...
وقوله {على بيّنة} أي على أمر بيّن جلي، والهاء في {بيّنة} للمبالغة كعلامة ونسابة، و «إيتاؤه الرحمة» هو هدايته للبيّنة، والمشار إليه بهذا كله النبوءة والشرع، وقوله {من عنده} تأكيد، كما قال: {يطير بجناحيه}، وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ختام جوابهم أشده، بدأ في جوابه برده مبيناً لضلالاتهم مغضياً عن شناعاتهم شفقة عليهم ومحبة لنجاتهم، فقال تعالى حكاية عنه: {قال يا قوم} وشرع يكرر هذه اللفظة كل قليل تذكيراً لهم أنه منهم لتعطفهم الأرحام وتردهم القرابات عن حسد أو اتهامه إلى قبول ما يلقي إليهم من الكلام، وأشار بأداة البعد -مع قربهم- إلى مباعدتهم فيما يقتضي غاية القرب {أرأيتم} أي أخبروني {إن كنت} على سبيل الفرض منكم والتقدير {على بينة} أي برهان ساطع، وزاد ترغيباً فيه بقوله: {من ربي} أي الذي أوجدني وأحسن إليّ بالرسالة وغيرها يشهد بصحة دعواي شهادة لا يتطرق إليها عند المنصف شبهة فكيف بالظن! {وآتاني} فضلاً منه عليّ لا لمعنى فيّ أزيد عليكم به، بل {رحمة} أي إكراماً بالرسالة بعد النبوة، وعظمها بقوله: {من عنده} فيها فضل عظيم النور واضح الظهور. ولما كانت البينة من الرحمة، وحد الضمير فقال: {فعميت} أي فتسبب عن تخصيصي بها أن أظلمت، ووقع ظلامها {عليكم} أي فعميتم أنتم عنها لضعف عقولكم ولم يقع عليكم شيء من نورها، وذلك أن الدليل إذا كان أعمى عاد ضرره على التابع بالحيرة والضلال،... {أنلزمكموها} وقوله: {وأنتم لها كارهون} مع تسميته لها بينة -إشارة إلى أنها لم تعم ولا خفيت عليهم لقوة نورها وشدة ظهورها، وإنما هم معاندون في نفيهم لفضله وفضل من تبعه، والتعبير عن ذلك بالجملة الاسمية واسم الفاعل إشارة إلى أن أفعالهم أفعال من كراهته لها ثابتة مستحكمة، وكأنه لم يكن مأموراً بالقتال كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم في أول الأمر، والآية ناظرة إلى قوله تعالى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس: 99] ويجوز أن يكون ذلك كناية عن أنهم معاندون مع قطع النظر عن الجهاد وغيره فإن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بالمجادلة للمعاندين إلى أن يلزموهم الحجة، وهي لا تفيد إلا الإلزام في الظاهر مع الإنكار والكراهة في الباطن، والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة للكاملين، وبالموعظة والخطابة للمنافقين الذين لا يعاندون ويحسنون الظن في الداعي، فيكون المعنى أن البينة لم تنفعكم لشكاسة واعوجاج في طباعكم، فلم يبق إلا الموعظة وهي لا تفيد إلا مع حسن الظن، وأما مع الكراهة فلا ينفعكم النصح، فلا فائدة في المجادلة إلا الإلزام، وهو مع الكراهة غير نافع لكم...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأيْتُمْ} أي أخبروني وفيه إيماءٌ إلى ركاكة رأيِهم المذكور... ومحصولُ الجوابِ أخبروني إن كنتُ على حجة ظاهرةِ الدِلالة على صِحّة دعواي إلا أنها خافيةٌ عليكم غيرُ مُسلَّمةٍ عندكم، أيمكنُنا أن نكرِهَكم على قَبولها وأنتم معرضون عنها غيرَ متدبِّرين فيها أي لا يكون ذلك، وظاهرُه مُشعِرٌ بصدوره عنه عليه الصلاة والسلام بطريق إظهارِ اليأسِ عن إلزامهم القعودَ عن مُحاجَّتهم كقوله تعالى: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي} [هود، الآية 34] الخ، لكنه محمولٌ على أن مرادَه عليه الصلاة والسلام ردُّهم عن الإعراض عنها وحثُّهم على التدبّر فيها بصرف الإنكارِ إلى الإلزام حالَ كراهتِهم لها لا إلى الإلزام مطلقاً، هذا ويجوز أن يكون المرادُ بالبينة دليلَ العقلِ الذي هو ملاكُ الفضل، وبحسبه يمتاز أفرادُ البشرِ بعضُها من بعض وبه يناط الكرامةُ عند الله عز وجل والاجتباءُ للرسالة، وبالكون عليها التسمكُ به والثباتُ عليه وبخفائها على الكفرة على أن الضميرَ للبينة عدمُ إدراكِهم لكونَه عليه الصلاة والسلام عليها وبالرحمة النبوةُ التي أنكروا اختصاصَه عليه السلام بها بين ظَهرانيهم، والمعنى أنكم زعمتم أن عهدَ النبوةِ لا يناله إلا من له فضيلةٌ على سائر الناسِ مستتبِعةٌ لاختصاصه به دونهم، أخبروني إن امتزتُ عنكم بزيادة مزيةٍ وحيازةِ فضيلةٍ من ربي وآتاني بحسبها نبوةً منه فخفِيَتْ عليكم تلك البينةُ ولم تُصيبوها ولم تنالوها ولم تعلموا حيازتي لها وكوني عليها إلى الآن حتى زعمتم أني مثلُكم وهي متحققةٌ في نفسها أنلزمكم قبولَ نبوتي التابعةِ لها والحالُ أنكم كارهون لذلك فيكون الاستفهامُ للحمل على الإقرار، وهو الأنسبُ بمقام المُحاجّةِ وحينئذٍ يكون كلامُه عليه الصلاة والسلام جواباً عن شُبَههم التي أدرجوها في خلال مقالِهم من كونه عليه السلام بشراً، قصارى أمره أن يكون مثلَهم من غير فضلٍ له عليهم وقطعاً لشأفة آرائِهم الركيكة...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{أنلزمكموها وأنتم لها كارهون}...فالاستفهام للإنكار، أي لا نقدر على ذلك، والذي في وسعنا دعوتكم إلى الله، لا أن نضطركم إليها، فإن شئتم تلقيها فزكوا نفوسكم، واتركوا إنكاركم. وفي طي جوابه عليه السلام حث على تدبرها، ورد عن الإعراض عنها، بأسلوب فائق.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} خاطبهم عليه السلام بلقب القوم مضافا إلى ضمير "يا قومي، وحذف الياء من الرسم مراعاة للنطق "استعطافا وإيذانا بأنه يدعوهم إلى ما هو خير لهم، وكلمة "أرأيتم" تستعمل عند العرب بمعنى: أخبروني عن رأيكم فيما يأتي بعدها كما تقدم في سورة يونس [5 و 59 وغيرها]، والبينة: ما يتبين به الحق وتقدم الكلام عليها آنفا في تفسير الآية 17.
أي: أخبروني يا قومي الأعزاء ما رأيكم وقولكم في حالي معكم إن كنت على حجة ظاهرة من ربي فيما جئتكم به تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي وكسبي البشري الذي تشاركونني فيه وإنما هي فوق ذلك.
{وآتاني رحمة من عنده} وهي النبوة وتعاليم الوحي التي هي سبب رحمة الله الخاصة لمن يهتدي بها فوق رحمته العامة لعباده كلهم.
{فعميت عليكم} قرأ الجمهور عمِيت بالتخفيف كخفيت وزنا ومعنى، ومثلها {فعميت عليهم الأنباء} [القصص: 66] وقرأها حمزة والكسائي وحفص بالتشديد والبناء للمفعول، أي فحجبها عنكم جهلكم وغروركم بمالكم وجاهكم فلم تستبينوا بها ما تدل عليه من التفرقة بيني وبينكم إذ جعلتموني بشرا مثلكم، والتعبير بعميت مخففة ومشددة أبلغ من التعبير بخفيف وأخفيت لأنه مأخوذ من العمى المقتضي لأشد أنواع الخفاء. ويجوز عود الضمير إلى البينة لاقتضاء خفائها خفاء الرحمة كما هو فإن الدليل مع المدلول، ويجوز عوده إلى الرحمة باعتبار ذكرها بعد البينة كأنه قال فخفيت عليكم رحمة الله لكم بهذه النبوة لخفاء البينة الدالة عليها، أو لأن البينة خاصة به عليه السلام وهو العلم الضروري الذي يعلم به النبي أنه نبي.
{أنلزمكموها وأنتم لها كارهون} أي أنلزمكم إياها بالجبر والإكراه والحال أنكم كارهون لها إنكارا، وجحودا واستكبارا؟ أي لا نفعل ذلك فإن الإسلام لا يصح إلا بإيمان الإذعان، {وما على الرسول إلا البلاغ} [النور: 54]، وهو أول نص في دين الله تعالى يدل على أنه ما كان ولا يصح أن يكون بالإكراه، وأما ما فعله نصارى الإفرنج في سابق تاريخهم- وما لا يزال يفعله بعضهم في مستعمراتهم- من التنصير بإجبار الأقوام على النصرانية، فهو مما امتازوا به على أمم الشرق في ظلمهم وتعصبهم. وهذه الآية إثبات لنبوته عليه السلام ورد لإنكارهم لها وتكذيبه ومن معه فيها، وإبطال لشبهتهم الأولى في أنه بشر مثلهم، وهي مبنية على أن المساواة في البشرية تقتضي استواء أفراد الجنس، ويدفعها ما هو معلوم بالحس والخبر [بالضم أي الاختبار] من التفاوت العظيم بين أفراد البشر في العقل والفكر والرأي والأخلاق والأعمال بما هو أبعد من التفاوت بينهم وبين بعض الحيوان الأعجم، حتى أن واحدا منهم ليأتي من الإصلاح لقومه بالعلم والعمل ما يعجز عن مثله الألوف الكثيرون في القرون المتوالية، وكل هذا في محيط التفاوت العادي، والعلم والعمل الكسبي، وفوقهما ما اختص الله به من شاء من عباده بما لا كسب لهم فيه فجعلهم أنبياء ورسلا له كما بيناه بالتفصيل في مباحث الوحي المحمدي.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يتلقى نوح -عليه السلام- الاتهام والإعراض والاستكبار، في سماحة النبي وفي استعلائه وفي ثقته بالحق الذي جاء به، واطمئنانه إلى ربه الذي أرسله؛ وفي وضوح طريقه أمامه واستقامة منهجه في شعوره. فلا يشتم كما شتموا، ولا يتهم كما اتهموا، ولا يدعي كما ادعوا، ولا يحاول أن يخلع على نفسه مظهرا غير حقيقته ولا على رسالته شيئا غير طبيعتها...
. (يا قوم).. في سماحة ومودة بندائهم ونسبتهم إليه، ونسبة نفسه إليهم. إنكم تعترضون فتقولون: (ما نراك إلا بشرا مثلنا).. فما يكون رأيكم إن كنت على اتصال بربي، بين في نفسي مستيقن في شعوري. وهي خاصية لم توهبوها. وإن كان الله آتاني رحمة من عنده باختياري للرسالة، أو آتاني من الخصائص ما أستحق به حمل الرسالة -وهذه رحمة ولا شك عظيمة – ما رأيكم إن كانت هذه وتلك فخفيت عليكم خفاء عماية، لأنكم غير متهيئين لإدراكها، وغير مفتوحي البصائر لرؤيتها. (أنلزمكموها؟) إنه ما كان لي وما أنا بمستطيع أن ألزمكم الإذعان لها والإيمان بها (وأنتم لها كارهون)! وهكذا يتلطف نوح في توجيه أنظارهم ولمس وجدانهم وإثارة حساسيتهم لإدراك القيم الخفية عليهم، والخصائص التي يغفلون عنها في أمر الرسالة والاختيار لها: ويبصرهم بأن الأمر ليس موكولا إلى الظواهر السطحية التي يقيسون بها. وفي الوقت ذاته يقرر لهم المبدأ العظيم القويم. مبدأ الاختيار في العقيدة، والاقتناع بالنظر والتدبر، لا بالقهر والسلطان والاستعلاء!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فُصلت جملة {قال يا قوم} عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدّمناه عند قوله تعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعِلٌ في الأرض خليفةٌ} في سورة [البقرة: 30]، فهذه لما وقعت مقابلاً لكلام محكي يقال فصلت الجملة ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفاً في قوله: {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} [هود: 27]. وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه، كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف، واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيراً لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلاّ خيراً. وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدلّلاً بأنهم ما رأوا له مزية وفضلاً، وما رأوا أتباعه إلاّ ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه، سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لِردّ أقوالهم، فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته، فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدى الذي جاء به...
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدّلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به...
وجملة {أنلزمكموها} سادة مسد مفعولي {أرأيتم} لأن الفعل علّق عن العمل بدخول همزة الاستفهام. وجوابُ الشرط محذوف دلّ عليه فعل {أرأيتم} وما سدّ مسد مفعوليه. وتقدير الكلام: قال يا قوم إن كنت على بيّنة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون. وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فُرض وقوعه لكان له أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يُهيب بهم. والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم. والاستفهام إنكاري، أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضاً عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله، وذلك أشد في توقع العقاب العظيم. والكاره: المبغض لشيء. وعدّي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة، أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبّر فيها. وتقديم المجرور على {كارهون} لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها. والمقصود من كلامه بعْثهم على إعادة التأمل في الآيات. وتخفيض نفوسهم. واستنزالُهم إلى الإنصاف. وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم...
... إذن فلا إلزام من الرسول لقومه بأن يؤمنوا؛ لأن الإيمان يحتاج إلى قلوب، لا قوالب، وإكراه القوالب لا يزرع الإيمان في القلوب. والحق سبحانه يريد من خلقه قلوبا تخشع، لا قوالب تخضع، ولو شاء سبحانه لأرغمهم وأخضعهم كما أخضع الكون كله له...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{قَالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَءاتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ}، وهو هنا يناقش ما استبعدوه من فكرة النبوّة للبشر، ليؤكد أن مثل هذه الأمور لا تخضع لمثل هذه الطريقة في التفكير، بل تخضع لقيمة الدلائل والبراهين التي يرتكز عليها الرسول، في ما يقدّمه منها. فهو يقول لهم: هذا ما أريد أن أثيره أمامكم، فإني أملك من البينات الواضحة على الإيمان برسالتي ما أقتنع به مصدّقاً بأني رسولٌ من الله إليكم، فقد أعطاني الله البيّنة على ذلك وأتاني رحمة من عنده بما أفاضه عليَّ من موقع الرسالة، ووضوح الرؤية للأشياء، الأمر الذي يجعلني في موقع القوّة، في ما أؤمن به وأدعو إليه، وما المانع من أن يكون البشر رسولا، ما دامت مسؤولية الرسول لا تمثل حركةً في الغيب، بل هي حركةٌ في الواقع، خاضعة للخصائص التي يملكها العاملون في ساحته؟! وماذا أفعل لكم إذا كنتم خاضعين للفكرة الخاطئة التي ورثتموها عن آبائكم، فمنعتكم عن التفكير المستقل الأصيل، لما يُطرح عليكم من بيّنات وبراهين؟! {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} كنتيجة للجوّ الفكري والنفسي الخانق الذي خضعتم له، فحجب عنكم وضوح الرؤية للأشياء، {أنلزمكموهَا} ونفرضها عليكم، إذا لم تفرضوها على أنفسكم من موقع القناعة والإيمان الصادر عن التأمّل والتفكير، {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} مما يُبعدكم عن الانفتاح على الفكر الذي يقدّم إليكم، بعمق وواقعية وتدبُّر.