فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليه السلام عليهم إجمالا فقال { قال يا قوم أرأيتم } أي أخبروني { إن كنت على بينة } برهان { من ربي } في النبوة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها مع كون ما جعلتموه قادحا ليس بقادح في الحقيقة فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوة وإتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوة فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم فإتباعهم لي حجة عليكم لا لكم ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وفي هذا الخطاب غاية التلطف بهم .

{ وآتاني رحمة من عنده } وهي النبوة وقيل الرحمة المعجزة والبينة النبوة قيل ويجوز أن يكون الرحمة هي البينة نفسها والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت به البينة وقيل الرحمة هي على الحق ، وقيل هي الهداية إلى معرفة البرهان ، وقيل الإيمان والإفراد في { فعميت } على إرادة كل واحدة منهما أو على إرادة البينة لأنها هي التي تظهر لمن تفكر وتخفى على من لم يتفكر ومعنى عميت خفيت يقال عميت عن كذا وعمي علي كذا إذا لم أفهمه .

قيل وهو من باب القلب لأن البينة أو الرحمة لا تعمي ، وإنما يعمى عنها فهو كقولهم أدخلت القلنسوة رأسي وقيل أن عمي الدليل بمعنى خفائه مجازا فيقال حجة عمياء كما يقال مبصرة للواضحة وهو استعارة تبعية ، شبه خفاء الدليل بالعمى في أن كلا يمنع الوصول إلى المقاصد وقرئ فعميت بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول أي فعماها الله .

{ عليكم } فلم تهدكم كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغيرها وفي قراءة أبي فعماها عليكم .

والاستفهام في { أنلزمكموها } للإنكار أي لا يمكنني أن اضطركم إلى المعرفة بها أي بالرحمة والمراد إلزام الجبر بالقتل ونحوه لا إلزام الإيجاب إذ هو حاصل ولذا فسره السيوطي بقوله أنجبركم على قبولها { وأنتم } أي والحال أنكم { لها كارهون } أي منكرون ونافون لها والمعنى أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة النبوة إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عز وجل .

وعن قتادة قال : أما والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه ، ولكنه لم يستطع ذلك ولم يمكنه .