فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

ثم ذكر سبحانه ما أجاب به نوح عليهم ، فقال : { قَالَ يَا قَوْمٌ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَبّي } أي : أخبروني إن كنت على برهان من ربي في النبوّة يدل على صحتها ويوجب عليكم قبولها ، مع كون ما جعلتموه قادحاً ليس بقادح في الحقيقة ، فإن المساواة في صفة البشرية لا تمنع المفارقة في صفة النبوّة ، واتباع الأراذل كما تزعمون ليس مما يمنع من النبوّة ، فإنهم مثلكم في البشرية والعقل والفهم ، فاتباعهم لي حجة عليكم لا لكم ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة { وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ } هي : النبوّة ، وقيل : الرحمة : المعجزة ، والبينة : النبوّة . قيل : ويجوز أن تكون الرحمة هي : البينة نفسها ، والأولى تفسير الرحمة بغير ما فسرت البينة ، والإفراد في { فَعُمّيَتْ } على إرادة كل واحدة منهما ، أو على إرادة البينة ، لأنها هي التي تظهر لمن تفكر ، وتخفى على من لم يتفكر ، ومعنى عميت : خفيت ؛ وقيل : الرحمة هي على الخلق ، وقيل : هي الهداية إلى معرفة البرهان ، وقيل : الإيمان ، يقال عميت عن كذا ، وعمي عليّ كذا : إذا لم أفهمه . قيل وهو من باب القلب ، لأن البينة أو الرحمة لا تعمي وإنما يعمى عنها فهو كقولهم : أدخلت القلنسوة رأسي . وقرأ الأعمش ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص { فعمّيت } بضم العين وتشديد الميم على البناء للمفعول : أي فعماها الله عليكم ، وفي قراءة أبيّ { فعماها عليكم } والاستفهام في { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } للإنكار : أي لا يمكنني أن أضطركم إلى المعرفة بها ، والحال أنكم لها كارهون ، والمعنى : أخبروني إن كنت على حجة ظاهرة الدلالة على صحة نبوّتي إلا أنها خافية عليكم أيمكننا أن نضطركم إلى العلم بها ، والحال أنكم لها كارهون غير متدبرين فيها ، فإن ذلك لا يقدر عليه إلا الله عزّ وجلّ . وحكى الكسائي والفراء إسكان الميم الأولى في { أنلزمكموها } تخفيفاً كما في قول الشاعر :

فاليوم أشرب غير مستحقب *** إثماً من الله ولا واغل

فإن إسكان الباء في أشرب للتخفيف . وقد قرأ أبو عمرو كذلك .

/خ24