الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{قَالَ يَٰقَوۡمِ أَرَءَيۡتُمۡ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٖ مِّن رَّبِّي وَءَاتَىٰنِي رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِهِۦ فَعُمِّيَتۡ عَلَيۡكُمۡ أَنُلۡزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمۡ لَهَا كَٰرِهُونَ} (28)

{ أَرَءيْتُمْ } أخبروني { إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ } على برهان { مّن رَّبّى } وشاهد منه يشهد بصحة دعواي { وءاتاني رَحْمَةً مِنْ عِندهِ } بإيتاء البينة على أن البينة في نفسها هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة : المعجزة ، وبالرحمة : النبوّة .

فإن قلت : فقوله : { فَعُمّيَتْ } ظاهر على الوجه الأوّل ، فما وجهه على الوجه الثاني ؟ وحقه أن يقال فعميتا ؟ قلت : الوجه أن يقدّر فعميت بعد البينة ، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة : ومعنى عميت خفيت . وقرىء : «فعميت » بمعنى أخفيت . وفي قراءة أبي «فعماها عليكم »

فإن قلت : فما حقيقته ؟ قلت : حقيقته أن الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء ، لأنّ الأعمى لا يهتدي ولا يهدي غيره ، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم ، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد .

فإن قلت : فما معنى قراءة أبي ؟ قلت : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم ، فجعلت تلك التخلية تعمية منه ، والدليل عليه قوله : { أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كارهون } يعني أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها ، وأنتم تكرهونها ولا تختارونها ، ولا إكراه في الدين ؟ وقد جيء بضميري المفعولين متصلين جميعاً . ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً كقولك : أنلزمكم إياها . ونحوه { فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } [ البقرة : 137 ] ويجوز : فسيكفيك إياهم . وحكي عن أبي عمرو إسكان الميم . ووجهه أنّ الحركة لم تكن إلا خلسة خفيفة ، فظنها الراوي سكوناً . والإسكان الصريح لحن عند الخليل وسيبويه وحذاق البصريين ؛ لأن الحركة الإعرابية لا يسوغ طرحها إلا في ضرورة الشعر .