قوله عز وجل : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين } يا محمد ، { إلا أنهم ليأكلون الطعام } روى الضحاك عن ابن عباس قال : لما عير المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، أنزل الله عز وجل هذه الآية . يعني : ما أنا إلا رسول وما كنت بدعاً من الرسل ، وهم كانوا بشراً يأكلون الطعام ، { ويمشون في الأسواق } . وقيل : معناه وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل لهم مثل هذا أنهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كما قال في موضع آخر : ( ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك ) { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } أي بلية ، فالغني فتنة للفقير ، يقول الفقير : ما لي لم أكن مثله والصحيح فتنة للمريض ، والشريف فتنة للوضيع . وقال ابن عباس : أي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى . وقيل : نزلت في ابتلاء الشريف بالوضيع ، وذلك أن الشريف إذا أراد أن يسلم فرأى الوضيع قد أسلم قبله أنف ، وقال : أسلم بعده فيكون له علي السابقة والفضل ، فيقيم على كفره ويمتنع من الإسلام ، فذلك افتتان بعضهم ببعض ، وهذا قول الكلبي . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عقبة ، والعاص بن وائل ، والنضر بن الحارث ، وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر ، وابن مسعود ، وعماراً ، وبلالاً ، وصهيباً ، وعامر بن فهيرة ، وذويهم ، قالوا : نسلم فنكون مثل هؤلاء ، وقال مقاتل : نزلت في ابتلاء فقراء المؤمنين بالمستهزئين من قريش ، كانوا يقولون : انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمداً من موالينا وأراذلنا ، فقال الله تعالى لهؤلاء المؤمنين : { أتصبرون } يعني على هذه الحالة من الفقر والشدة والأذى . { وكان ربك بصيراً } بمن صبر وبمن جزع .
أخبرأنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحسن ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والجسم فلينظر إلى من دونه في المال والجسم " .
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذي به { وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } أي : للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة [ القاهرة ]{[21439]} ، ما يستدل به كل ذي لب سليم ، وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] .
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي ؛ ولهذا قال : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي : بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ، ومن لا يستحق ذلك .
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم ، وأبتليهم{[21440]} بهم .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : إني مُبْتَلِيك ، ومُبْتَلٍ بك " {[21441]} . وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة " ، وفي الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا .
هذه الآية رد على كفار قريش في استبعادهم أن يكون من البشر رسول وقولهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } [ الفرقان : 7 ] فأخبر الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته أنه لم يرسل قبل في سائر الدهر نبياً إلا بهذه الصفة ، والمفعول ب { أرسلنا } محذوف يدل عليه الكلام تقديره رجلاً أو رسلاً ، وعلى هذا المحذوف المقدر يعود الضمير في قوله { إلا إنهم } وذهبت فرقة إلى أن قوله { ليأكلون الطعام } كناية عن الحدث ، وقرأ جمهور الناس «ويَمْشون » بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين ، وقرأ علي وعبد الرحمن وابن مسعود «يُمَشَّون » بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه ، وقرأ أبو عبد الرحمن{[8801]} بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة وهي بمعنى يمشون ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]
أمشي بأعطان المياه وأبتغي . . . قلائص منها صعبة وركوب{[8802]}
ثم أخبر عز وجل أن السبب في ذلك أن الله تعالى أراد أن يجعل بعض العبيد { فتنة } لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر ، فالصحيح فتنة للمريض ، والغني فتنة للفقير ، والفقير الشاكر فتنة للغني ، والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره ، وكذلك العلماء وحكام العدل ، وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب{[8803]} ، والتوقيف ب { أتصبرون } خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد صلى الله عليه وسلم كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختباراً ثم وقفهم هل يصبرون أم لا{[8804]} ، ثم أعرب قوله { وكان ربك بصيراً } عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.