قوله تعالى : { وأما ثمود فهديناهم } دعوناهم ، . قال مجاهد ، وقال ابن عباس : بينا لهم سبيل الهدى . وقيل : دللناهم على الخير والشر ، كقوله : { هديناه السبيل }( الإنسان-3 ) ، { فاستحبوا العمى على الهدى } فاختاروا الكفر على الإيمان ، { فأخذتهم صاعقة العذاب } أي : مهلكة العذاب ، { الهون } أي : ذي الهوان ، أي : الهوان ، وهو الذي يهينهم ويخزيهم . { بما كانوا يكسبون ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون }
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأما ثمود فهديناهم} يعني بينا لهم.
{فاستحبوا العمى على الهدى}: اختاروا الكفر على الإيمان.
{فأخذتهم صاعقة} يعني صيحة جبريل عليه السلام.
{العذاب الهون بما كانوا يكسبون} يعني يعملون من الشرك.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فبيّنا لهم سبيل الحقّ وطريق الرشد... قال ابن زيد، في قوله:"وأمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ" قال: أعلمناهم الهدى والضلالة، ونهيناهم أن يتّبعوا الضلالة، وأمرناهم أن يتبعوا الهدى...
وقوله: "فاسْتَحَبّوا العَمَى على الهُدَى "يقول: فاختاروا العمى على البيان الذي بيّنت لهم، والهدى الذي عرفتهم، بأخذهم طريق الضلال على الهدى، يعني على البيان الذي بيّنه لهم، من توحيد الله...
وقوله: "فَأخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذابِ الهُونِ بِمَا كانُوا يكْسِبُونَ" يقول: فأهلكتهم من العذاب المذلّ المهين لهم مُهلكة أذلتهم وأخزتهم والهون: هو الهوان...
وقوله: "بِمَا كانُوا يَكْسِبُونَ" من الآثام بكفرهم بالله قبل ذلك، وخلافهم إياه، وتكذيبهم رسله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} فاختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
فإن قلت: أليس معنى هديته: حصلت فيه الهدى، والدليل عليه قولك: هديته فاهتدى، بمعنى: تحصيل البغية وحصولها، كما تقول: ردعته فارتدع، فكيف ساغ استعماله في الدلالة المجرّدة؟ قلت: للدلالة على أنه مكنهم وأزاح عللهم ولم يُبق لهم عذراً ولا علة، فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها ويقتضيها. {صاعقة العذاب} داهية العذاب وقارعة العذاب. و {الهون} الهوان، وصف به العذاب مبالغة، أو أبدله منه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أنهى أمر صاعقتهم، شرع في بيان صاعقة ثمود فقال: {وأما ثمود} وهم قوم صالح عليه الصلاة والسلام.
{فهديناهم} أي بينا لهم طريق الهدى من أنا قادرون على البعث وعلى كل شيء فلا شريك لنا، وكان بيان ذلك بالناقة غاية البيان فأبصروا ذلك بأبصارهم التي هي سبب أبصار بصائرهم غاية الإبصار، فكرهوا ذلك لما يلزمه من تنكب طريق آبائهم وأقبلوا على لزوم طريق آبائهم.
{فاستحبوا العمى} اي الضلال الناشئ عن عمى البصر أو البصيرة أو هما معاً. {على الهدى} أي أوجدوا من الأفعال والأقوال ما يدل على حب ذلك وعلى طلب حبه فعموا فضلوا.
{فأخذتهم} أي بسبب ذلك أخذ قسر وهوان.
{صاعقة العذاب} وأبلغ في وصفه بجعله نفس الهون فقال: {الهون} أي ذي الهون، قامت ضمته مقام ما في الهوان من الصيغة فعلم أن المراد أنه المهين المخزي.
{بما كانوا} أي دائماً {يكسبون} أي يتجدد تحصيلهم له وعدهم له فائدة، فالآية من الاحتباك ذكر الهداية أولاً دليلاً على حذف الضلال ثانياً والعمى ثانياً دليلاً على حذف الإبصار أولاً، وسره أنه نسب إليه أشرف فعليه، وأسند إليهم ما لا يرضاه ذو روح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) ويظهر أن هذه إشارة إلى اهتدائهم بعد آية الناقة ثم ردتهم وكفرهم بعد ذلك. وإيثارهم العمى على الهدى، والضلال بعد الهدى عمى أشد العمى!
(فأخذتهم صاعقة العذاب الهون بما كانوا يكسبون) والهوان أنسب عاقبة. فليس هو العذاب فحسب، وليس هو الهلاك فحسب. ولكنه كذلك الهوان جزاء على العمى بعد الإيمان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان حال الأمتين واحداً في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى: {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنْزَلَ مَلائِكَةً} كان... الإِخبار عن ثمود بأن الله هَداهم مقتضياً أنه هدَى عاداً مثل ما هدى ثمود وأن عاداً استحبوا العَمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود. والمعنى: وأما ثمودُ فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض. فالمراد بالهداية هنا: الإرشاد التكليفي، وهي غير ما في قوله: {ومن يهد اللَّه فما له من مضل} [الزمر: 37] فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله: {وَمَن يضْلل الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33] واستحبوا العمى معناه: أحبّوا، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله: {فاستكْبُروا في الأرضِ بغيرِ الحَقِّ}، أي كان العمى محبوباً لهم. والعمى: هنا مستعار للضلال في الرأي، أي اختاروا الضلال بكسبهم.
وضُمن (استحبوا) معنى: فَضَّلوا، وَهَيَّأ لهذا التضمين اقترانُه بالسين والتاء للمبالغة؛ لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدّي (استحبوا) بحرف {على}، أي رجحوا باختيارهم. وتعليق {عَلَى الهدى} بفعل
(استحبوا) لتضمينه معنى: فضّلوا وآثروا...
وفُرع عليه {فَأَخَذَتْهُم صاعقة العَذَابِ الهُونِ}، وكان العقاب مناسباً للجُرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تُعمِي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} [البقرة: 20].
والأخذ: مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمُهلَك يُزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد.
والصاعقة: الصيْحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه وإضافة {صاعقة} إلى {العَذَابِ} للدلالة على أنها صاعقة تُعَرّف بطريق الإضافة إذ لا يُعرِّفَ بها إلا ما تضاف إليه، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه.
ويعلم من قوله في شأن عاد {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} أن لثمود عذاباً في الآخرة لأن الأمتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم. وهذا مُحسِّن الاكتفاء، وهو محسِّن يرجع إلى الإيجاز.
هنا وقفة لعلماء الكلام {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ..} الهُدَى هو الدلالة على طريق الخير الموصِّل إلى غاية خير، نقول دلَّه على الطريق، وحين تدل الناس منهم مَنْ يستمع لك ويطيعك، ومنهم مَنْ لا يستمع إليك، فالأول تزيده هداية وإرشاداً حتى يصل إلى غايته، والآخر تتخلى عنه.
لذلك قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: اهتدوا لطريق الدلالة. زادهم هدىً. أي: بالمعونة والتوفيق للعمل الصالح وكراهية عمل الشر، إذن: هناك هداية للدلالة، وهداية للتوفيق والمعونة. وهل تعين إلا مَنْ أطاعك وآمن بك؟
وسبق أنْ ضربنا لذلك مثلاً برجل المرور الذي يقف على مفترق الطرق، وتحتاج إلى أن تسأله عن الطريق الذي تقصده، يقول لك: الطريق من هنا، فإن شكرته على صنيعه وتوجهتَ إلى الطريق الذي دلَّك عليه زادك إرشاداً وبيَّن لك ما في الطريق من عقبات أو مصاعب. وربما صحبك حتى تمرَّ من هذه الصعاب.
فأنت سألته فدلَّكَ فاتبعْتَ دلالته وشكرته فقال: أنت أهلٌ لمعونتي وإرشادي، أما إنْ خالفتَ رأيه وسِرْتَ في طريق آخر غير طريق دلالته فلا بُدَّ أنْ يتخلى عنك، وأنْ يدعك وشأنك.
كذلك الحق سبحانه وتعالى يدل الجميع على طريق الخير، كل الخلق دلَّهم الله، فمَنْ أطاع في هداية الدلالة كان أهلاً للزيادة، وأهلاً لهداية المعونة والتوفيق، ومَنْ عصى وخالف في هداية الدلالة لم يكُنْ أهلاً لهداية المعونة.
كذلك كان شأن ثمود {فَهَدَيْنَاهُمْ..} هداية دلالة {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ..} أي: استحبُّوا العمى عن فعل الخير، لأنهم ارتاحوا للمخالفة وأرادوا الخروج من قيود التكاليف الشرعية، وإلا لماذا عبدوا الأصنام وهم يعلمون ما هي، وصنعوها بأيديهم؟
عبدوها لأن في عبادتها إرضاءً للنفس بأنْ يكون لها إله تعبده، وما أجملَ أنْ يكون هذا الإله بلا تكاليف وبلا منهج بافعل ولا تفعل، إذن: مشقة تكاليف الطاعة وحلاوة إتيان المعصية تأتي من التكليف، فإن وُجدَ إله بلا تكاليف مالتْ إليه النفس وأحبته، لأن ذلك يُرضِي غريزة الفطرة الإيمانية في الإنسان، وهو أن كلَّ إنسان آمن بالعهدة الأول في مرحلة الذر {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ..} [الأعراف: 172].
إذن: فبضعة الإيمان في كل إنسان موجودة فيه من عهد الذر، ولكن يختلف الناسُ في قبول التكاليف والمنهج، فمن الناس مَنْ يرى في المنهج قيْداً لشهواته، فلا يرتاح إليه ويسعى إلى التديّن الخالي من التكليف كهؤلاء الذين استحبوا العمى على الهدى، ومن الناس مَنْ يحب الهداية والطاعة ويرتاح إلى المنهج ويأنس به.
وتأمل قوله تعالى: {فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَىٰ..} استحبَّ غير أحب. استحبَّ يعني: تكلّف حبه، وهذا دليل أنه شيء لا يُحبّ أصلاً وطبيعة، لكنه تكلف حبه ليحقق مراده من الشهوة، ولك أنْ تنظر إلى أيِّ سيئة نهاك الله عنها وهَبْهَا أنها واقعة عليك، هل تحبها؟ لا تحبها، إذن: هي لا تُحَبُّ.
وفي موضع آخر، لما تكلَّم الحق سبحانه عن المؤمنين قال عنهم: {أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ..} [البقرة: 5] وعلى تدل على الاستعلاء، فكأنهم مستوون على الهدى، وكأنه دابة يركبونها توصِّلهم إلى غايتهم، فالهدى لم يأتِ ليشق عليكم، إنما جاء ليحملكم ويُوصِّلكم إلى غاية الخير، فالمؤمنون على الهدى فوقه يوصلهم، ليس الهدى فوقهم يشق عليهم أو يكلفهم ما لا يطيقون، فالهدى إذن خدمة لكم وفي مصلحتكم...
ثم يقول سبحانه: {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} الصاعقة قلنا: هي كلُّ ما يصعق ويدمر، سواء كان بالريح أو النار، أو الصيحة المدمرة، والعذاب الهون أي: المصحوب بالإهانة والخزي {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يعني: وقع لهم هذا بسبب ما كسبوا، وما اقترفته أيديهم. يعني: جزاءً وفاقاً، لا ظلماً وعدواناً.