قوله تعالى : { وما كان لنفس أن تموت } . قال الأخفش : اللام في لنفس منقولة تقديره : وما كانت نفس لتموت .
قوله تعالى : { إلا بإذن الله } . بقضائه وقدره ، وقيل : بعلمه وقيل : بأمره .
قوله تعالى : { كتاباً مؤجلاً } . أي كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحد على تغييره وتأخيره ، ونصب كتابا على المصدر أي كتب كتاباً .
قوله تعالى : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } . يعني من يرد بطاعته الدنيا ويعمل لها نؤته منها ما يكون جزاء لعمله ، يريد نؤته منها ما يشاء مما قدرناه له ، كما قال ( من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ) . نزلت في الذين تركوا المركز يوم أحد طلباً للغنيمة .
قوله تعالى : { ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها } . أي أراد بعمله الآخرة قيل :أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جبير حتى قتلوا .
قوله تعالى : { وسنجزي الشاكرين } . أي : المؤمنين المطيعين .
أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي ، أخبرنا أبو الحسن أحمد ابن موسى بن الصلت ، أنا أبو إسحاق إبراهيم عبد الصمد الهاشمي ، أنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن يزيد بن عبد الرحمن بن المقرئ ، أنا أبي ، أنا الربيع ابن صبيح عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من كانت نيته طلب الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن كانت نيته طلب الدنيا ، جعل الله الفقر بين عينيه ، وشتت عليه أمره ، ولا يأتيه منها إلا ما كتب له " .
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن أبي توبة الزراد ، أخبرنا أبو بكر محمد بن إدريس بن محمد الجرجاني وأبو أحمد محمد بن أحمد بن علي المعلم الهروي قالا : أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الماليني ، أخبرنا أبو العباس الحسن بن سفيان النسوي ، أخبرنا حيان بن موسى ، وعبد الله بن أسماء ابن أخي جويرية ، ابن أسماء قالا : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، عن يحيى بن سعيد ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وقاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إ " نما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه " .
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية ، لمسة موحية ، تطرد ذلك الخوف ، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة ، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير ، ومن ابتلاء للعباد وجزاء :
( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا . ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ؛ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها . وسنجزي الشاكرين ) . .
إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم . ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم . فالخوف والهلع ، والحرص والتخلف ، لا تطيل أجلا . والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا . فلا كان الجبن ، ولا نامت أعين الجبناء . والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد !
بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس ، فتترك الاشتغال به ، ولا تجعله في الحساب ، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية . وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص ، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع . وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته ، في صبر وطمأنينة ، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده .
ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول . . فإنه إذا كان العمر مكتوبا ، والأجل مرسوما . . فلتنظر نفس ما قدمت لغد ؛ ولتنظر نفس ماذا تريد . . أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان ، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض ، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها ؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى ، وإلى اهتمامات أرفع ، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة ؟ . . مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة ؟ !
( ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها . ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ) .
وشتان بين حياة وحياة ! وشتان بين اهتمام واهتمام ! - مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل - والذي يعيش لهذه الأرض وحدها ، ويريد ثواب الدنيا وحدها . . إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام ! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . والذي يتطلع إلى الأفق الآخر . . إنما يحيا حياة " الإنسان " الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب . . ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ) . .
الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان ، فيرتفعون عن مدارج الحيوان ؛ ويشكرون الله على تلك النعمة ، فينهضون بتبعات الإيمان . .
وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة ، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء ، وفق ما يريدونه لأنفسهم ، من اهتمام قريب كاهتمام الدود ، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان ! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف - وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة - إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس ، في الحقل الذي تملكه ، وتملك فيه الاختيار . فتختار الدنيا أو تختار الآخرة . وتنال من جزاء الله ما تختار !
{ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا }
جملة معترضة ، والواو اعتراضية .
فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول ، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام ، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه ، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة . وفي قوله : { والله يعصمك عن الناس } [ المائدة : 67 ] عقب قوله : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] الدالّ على أنّ عصمته من النَّاس لأجل تبليغ الشَّلايعة . فقد ضمن الله له الحياة حتَّى يبلّغ شرعه ، ويتمّ مراده ، فكيف يظنّون قتله بيد أعدائه ، على أنَّه قبل الإعلان بإتمام شرعه ، ألا ترى أنَّه لمّا أنزل قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } [ المائدة : 3 ] الآية . بكى أبو بكر وعلم أنّ أجل النَّبيء صلى الله عليه وسلم قد قرب ، وقال : ما كمُل شيء إلاّ نقص . فالجملة ، على هذا ، في موضع الحال ، والواو واو الحال .
وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت ، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً .
وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل ، فالجملة ، على هذا ، معترضة ، والواو اعتراضية ، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة ، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته ، { وما تدري نفس بأي أرض تموت } [ لقمان : 34 ] ، والمؤمن مأمور بحفظ حياته ، إلاّ في سبيل الله ، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل ، والمراد { بإذن الله } تقديره وقت الموت ، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر ، وهو ما عبّر عنه مرّة ب ( كن ) ، ومرة بقدر مقدُور ، ومرّة بالقلم ، ومرّة بالكتاب .
والكتاب في قوله : { كتاباً مؤجلاً } يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب ، فيكون حالاً من الإذن ، أو من الموت ، كقوله : { لكل أجل كتاب } [ الرعد : 38 ] و« مؤجّلاً » حالاً ثانية ، ويجوز أن يكون { كتاباً } مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة ، وقوله : { مؤجلاً } صفة له ، وهو بدل من فِعله المحذوف ، والتَّقدير : كُتِب كتاباً مؤجّلاً أي مؤقتاً . وجعله صاحب « الكشاف » مصدراً مؤكّداً أي لِمضمون جملة { وما كان لنفس } الآية ، وهو يريد أنَّه مع صفته وهي { مؤجّلاً } يؤكِّد معنى { إلاّ بإذن الله } لأنّ قوله : { بإذن الله } يفيد أنّ له وقتاً قد يكون قريباً وقد يكون بعيداً فهو كقوله تعالى : { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] بعد قوله : { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] الآية .
{ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين } .
أي من يرد الدنيا دون الآخرة ، كالَّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالَّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة ، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها ، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن ، وهل جاءت الشريعة إلاّ لإصلاح الدنيا والإعداد لِحياة الآخرة الأبدية الكاملة ، قال الله تعالى : { فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة } [ آل عمران : 148 ] وقال تعالى : { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } أي الغنيمة أو الشَّهادة ، وغيرُ هذا من الآيات والأحاديث كثير . وجملة { وسنجزي الشاكرين } تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة . ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه ، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره بذلك: وما يموت محمد ولا غيره من خلق الله إلا بعد بلوغ أجله الذي جعله الله غاية لحياته وبقائه، فإذا بلغ ذلك من الأجل الذي كتبه الله له وأذن له بالموت فحينئذ يموت، فأما قبل ذلك فلن تموت بكيد كائد ولا بحيلة محتال... وقد قيل: إن معنى ذلك: وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله... يعني بذلك جلّ ثناؤه: من يرد منكم أيها المؤمنون بعمله جزاء منه بعض أعراض الدنيا دون ما عند الله من الكرامة، لمن ابتغى بعمله ما عنده {نُؤْتِهِ مِنْها} يقول: نعطه منها، يعني: من الدنيا، يعني: أنه يعطيه منها ما قسم له فيها من رزق أيام حياته، ثم لا نصيب له في كرامة الله التي أعدّها لمن أطاعه، وطلب ما عنده في الاَخرة. {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الاَخِرَةِ} يقول: ومن يرد منكم بعمله جزاء منه ثواب الآخرة، يعني ما عند الله من كرامته التي أعدّها للعاملين له في الاَخرة، {نُؤْتِهِ مِنْهَا} يقول: نعطه منها، يعني من الآخرة والمعنى: من كرامة الله التي خصّ بها أهل طاعته في الاَخرة. فخرج الكلام على الدنيا والآخرة، والمعنى ما فيهما... وأما قوله: {وَسَنَجْزِي الشّاكِرِين} يقول: وسأثيب من شكر لي ما أوليته من إحساني إليه بطاعته إياي وانتهائه إلى أمري وتجنبه محارمي في الاَخرة، مثل الذي وعدت أوليائي من الكرامة على شكرهم إياي...
فيه حضّ على الجهاد من حيث لا يموت أحد فيه إلا بإذن الله تعالى، وفيه التسلية عما يلحق النفس بموت النبي صلى الله عليه وسلم لأنه بإذن الله تعالى، لأنه قد تقدم ذكر موت النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {ومَا مُحَمَّدٌ إلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} الآية.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله: "إلا بإذن الله "يحتمل أمرين "أحدهما -إلا بعلمه. والثاني إلا بأمره. وقال أبو علي: الآية تدل على أنه لا يقدر على الموت غير الله، كما لا يقدر على ضده من الحياة إلا الله، ولو كان من مقدور غيره لم يكن بإذنه، لأنه عاص لله في فعله.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الأنفاس محصورة؛ لا زيادة فيها ولا نقصان منها. {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا}: للصالحين العاقبة وللآخرين الغفلة. {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا}: وثواب الآخرة أوله الغفران ثم الجِنان ثم الرضوان. {وَسَيَجْزِى اللهُ الشَّاكِرِينَ}: وجزاء الشكرِ الشكرُ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا} تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد {نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي من ثوابها {وَسَنَجْزِى} الجزاء المبهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم شيء عن الجهاد...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم أخبر تعالى عن النفوس أنها إنما تموت بأجل مكتوب محتوم واحد عند الله تعالى، أي فالجبن لا يزيد فيه، والشجاعة والإقدام لا تنقص منه، وفي هذه الآية تقوية النفوس للجهاد، قال ابن فورك: وفيها تسلية في موت النبي عليه السلام، العبارة بقوله: {وما كان} قد تجيء فيما هو ممكن قريب نحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله، وقد تقع في الممتنع عقلاً نحو قوله {ما كان لكم أن تنبتوا شجرها} 1 فهي عبارة لا صيغة لها ولا تتضمن نهياً كما يقول بعض المفسرين، وإنما يفهم قدر معناها من قرائن الكلام الذي تجيء العبارة فيه، و «نفس» في هذه الآية: اسم الجنس، و «الإذن» التمكين من الشيء مع العلم بالشيء المأذون فيه، فإن انضاف إلى ذلك قول فهو الأمر..
المسألة الأولى: في كيفية تعلق هذه الآية بما قبله وجوه:
الأول: أن المنافقين أرجفوا أن محمد صلى الله عليه وسلم قد قتل، فالله تعالى يقول: إنه لا تموت نفس إلا بإذن الله وقضائه وقدره، فكان قتله مثل موته في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر المعين، فكما أنه لو مات في داره لم يدل ذلك على فساد دينه، فكذا إذا قتل وجب أن لا يؤثر ذلك في فساد دينه، والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضعفة المسلمين أنه لما قتل محمد فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان.
الثاني: أن يكون المراد تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يدفع القدر، وأن أحدا لا يموت قبل الأجل وإذا جاء الأجل لا يندفع الموت بشيء، فلا فائدة في الجبن والخوف.
والثالث: أن يكون المراد حفظ الله للرسول صلى الله عليه وسلم وتخليصه من تلك المعركة المخوفة، فإن تلك الواقعة ما بقي سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل فيها، ولكن لما كان الله تعالى حافظا وناصرا ما ضره شيء من ذلك وفيه تنبيه على أن أصحابه قصروا في الذب عنه.
والرابع: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صلى الله عليه وسلم ما يحقق ذلك فيه أو يعين في تقوية الكفر، بل يبقيه الله إلى أن يظهر على الدين كله.
الخامس: أن المقصود منه الجواب عما قاله المنافقون، فإن الصحابة لما رجعوا وقد قتل منهم من قتل قالوا: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فأخبر الله تعالى أن الموت والقتل كلاهما لا يكونان إلا بإذن الله وحضور الأجل والله أعلم بالصواب.
المسألة الثانية: اختلفوا في تفسير الإذن على أقوال:
الأول: أن يكون الإذن هو الأمر وهو قول أبي مسلم، والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا.
الأمر الثاني، أن المراد من هذا الإذن ما هو المراد بقوله: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} والمراد من هذا الأمر إنما هو التكوين والتخليق والإيجاد، لأنه لا يقدر على الموت والحياة أحد إلا الله تعالى، فإذن المراد: أن نفسا لن تموت إلا بما أماتها الله تعالى.
الثالث: أن يكون الإذن هو التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار، وبه فسر قوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} أي بتخليته فإنه تعالى قادر على المنع من ذلك بالقهر، فيكون المعنى: ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله بتخلي الله بين القاتل والمقتول، ولكنه تعالى يحفظ نبيه ويجعل من بين يديه ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به، ولا يخلي بين أحد وبين قتله حتى ينتهي إلى الأجل الذي كتبه الله له، فلا تنكسروا بعد ذلك في غزواتكم بأن يرجف مرجف أن محمدا قد قتل.
الرابع: أن يكون الإذن بمعنى العلم ومعناه أن نفسا لن تموت إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه، وإذا جاء ذلك الوقت لزم الموت، كما قال {فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون}
الخامس: قال ابن عباس: الإذن هو قضاء الله وقدره، فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئته وإرادته فيجعل ذلك على سبيل التمثيل، كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله.
المسألة الثالثة: قال الأخفش والزجاج: اللام في {وما كان لنفس} معناها النفي، والتقدير وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله.
المسألة الرابعة: دلت الآية على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع.وقوله تعالى: {كتابا مؤجلا}... اعلم أن جميع الحوادث لا بد أن تكون معلومة لله تعالى، وجميع حوادث هذا العالم من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة لا بد وأن تكون مكتوبة في اللوح المحفوظ، فلو وقعت بخلاف علم الله لانقلب علمه جهلا، ولانقلب ذلك الكتاب كذبا، وكل ذلك محال، وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الكل بقضاء الله وقدره...
وأما قوله تعالى: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها وسنجزي الشاكرين}. فاعلم أن الذين حضروا يوم أحد كانوا فريقين، منهم من يريد الدنيا، ومنهم من يريد الآخرة كما ذكره الله تعالى فيما بعد من هذه السورة، فالذين حضروا القتال للدنيا، هم الذين حضروا لطلب الغنائم والذكر والثناء، وهؤلاء لا بد وأن ينهزموا، والذين حضروا للدين، فلا بد وأن لا ينهزموا ثم أخبر الله تعالى في هذه الآية أن من طلب الدنيا لا بد وأن يصل إلى بعض مقصوده ومن طلب الآخرة فكذلك، وتقريره قوله عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيات» إلى آخر الحديث. واعلم أن هذه الآية وأن وردت في الجهاد خاصة، لكنها عامة في جميع الأعمال، وذلك لأن المؤثر في جلب الثواب، والعقاب المقصود والدواعي لا ظواهر الأعمال، فإن من وضع الجبهة على الأرض في صلاة الظهر والشمس قدامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان ذلك من أعظم دعائم الإسلام، وإن قصد به عبادة الشمس كان ذلك من أعظم دعائم الكفر. وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أن الله تعالى يقول يوم القيامة لمقاتل في سبيل الله «في ماذا قتلت فيقول أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت فيقول تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان محارب وقد قيل ذلك» ثم إن الله تعالى يأمر به إلى النار.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا} أي: لا يموت أحد إلا بقدر الله، وحتى يستوفي المدةَ التي ضربها الله له؛ ولهذا قال: {كِتَابًا مُؤَجَّلا} كقوله 10 {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وكقوله {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ} [الأنعام: 2].
وهذه الآية فيها تشجيع للجُبَناء وترغيب لهم في القتال، فإن الإقدام والإحجام لا يَنْقُص من العمر ولا يزيد فيه كما قال ابن أبي حاتم:
حدثنا العباس بن يزيد العبدي قال: سمعت أبا معاوية، عن الأعمش، عن حبيب بن صُهبان، قال: قال رجل من المسلمين 11 -وهو حُجْرُ بن عَدِيّ -: ما يمنعكم أن تعبُروا إلى هؤلاء العدو، هذه 12 النطفة؟- يعني دِجْلَة -{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا} ثم أقحم فرسه دجلة فلما أقحم أقحم الناس فلما رآهم العدوّ قالوا: ديوان، فهربوا 13 14.
وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا} أي: من كان عمله للدنيا فقد نال منها ما قدّرَه الله له، ولم يكن له في الآخرة [من] 15 نصيب، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها مع ما قسم له في الدنيا كما قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 18، 19] وهكذا قال هاهنا: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شُكْرهم وعملهم.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام ما مثاله: تلك قضية وهذه قضية أخرى ووجه الاتصال بينهما أن المراد بتلك لوم المؤمنين على ما وقع منهم إذا بلغهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بهذه بيان أنه لو قتل لما كان قتله إلا بإذن الله و مشيئته، فهو توبيخ لمن اندهش من خبر موته، كأنه بسبب زلزالهم وزعزعة عقائدهم قد جعلوا موته جناية منه فأذاقهم تعالى بهذه العبارة مرارة خطأهم وأراهم بها قبح جهلهم، كأنه يقول إن محمدا يدعوكم إلى الله- أي لا إلى نفسه- فلو كان هذا الموت يقع بدون إذن الله لكان الانقلاب صوابا، ولكن إذا كان هذا الموت لا يقع إلا بإذنه تعالى إذ ليس لأحد في العالم سلطان يقهره ويوقع في ملكه شيئا بالكره منه فلا معنى لزلزلة ثقتكم بالله وضعفكم عن المضي فيما كنتم عليه مع النبي في حياته لأن الله لم يزل حيا باقيا عليما حكيما. قال: وفي الآية معنى آخر وهو أنه ما دام محيانا ومماتنا بيد الله فلا محل للجبن والخوف، ولا عذر في الوهن والضعف، وفيها تأكيد لما تقدم بيانه في الآية التي قبلها وهو أن الموت لا يدل على بطلان ما كان عليه من يموت ولا على حقيته... هذه هي القاعدة الأولى في الآية. وأما الثانية فهي قوله تعالى: {ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها}...
قال الأستاذ الإمام: هذه قضية أخرى وفيها وجهان:
(أحدهما) أنها رد لاستدلال من استدل بما حل بالمسلمين على أن ما هم عليه غير الحق فهي من هذا الوجه فرع من فروع قوله: {قد خلت من قبلكم سنن} فهو يقول إن لنيل ثواب الدنيا سننا ولنيل ثواب الآخرة سننا، فمن سار على سنن واحدة منهما وصل إليها. فإذا كان المشركون قد استظهروا على المسلمين في هذه المرة فلأنهم طلبوا لعملهم الدنيا وأخذوا له أهبته من حيث قد قصر المسلمون في اتباع السنن في ذلك بمخالفة الرسول كما تقدم.
(والوجه الثاني) أنه يقول لأولئك الذي ضعفوا وفشلوا وانقلبوا على أعقابهم: ما الذي تريدون بعملكم هذا؟ إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك وما عليكم إلا أن تسلكوا طريقه ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد، وإنما يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا والمعول فيه على ما في الآخرة. فالمسألة معكم بين أمرين إرادة الدنيا وإرادة الآخرة، كل يريد أمرا ولكل أمر سنن تتبع ولكل دار طريق تسلك... ولإرادة الإنسان دخل في تلك السنن والمقادير ولذلك قال: (من كان يريد) (ومن أراد) فاعرف قيمة إرادتك واعرف قبل ذلك قيمة نفسك فلا تجعلها كنفوس الحشرات التي تعيش زمنا محدودا، ثم تفنى كأن لم تكن شيئا مذكورا. إنك قد خلفت للبقاء ولك في الوجود طوران طور عاجل قصير وهو طور الحياة الدنيا، وطور أجل أبدي وهو طور الحياة الآخرة، وسعادتك في كل من الطورين تابعه لإرادتك، وما توجهك إليه من العمل في حياتك، فأعمال الناس متشابهة، ومشقتهم فيها متقاربة، وإنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد، لأنها هي التي تكون تارة علة وتارة معلولا لطهارة الروح وعلو النفس وسمو العقل ورقة الوجدان وهي المزايا التي يفضل بها إنسان على إنسان... إذا فقهت هذا فقهت معنى قوله: {وسيجزي الله الشاكرين} أي الذين يعرفون نعمة الله عليه بقوة الإرادة ويستعملونها فيما يعرج بهم إلى مستوى الكمال، فتكون أعمالهم صالحة رافعة لنفوسهم ونافعة لغيرهم. وأبهم هذا الجزاء لتعظيم شأنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يلمس السياق القرآني مكمن الخوف من الموت في النفس البشرية، لمسة موحية، تطرد ذلك الخوف، عن طريق بيان الحقيقة الثابتة في شأن الموت وشأن الحياة، وما بعد الحياة والموت من حكمة لله وتدبير، ومن ابتلاء للعباد وجزاء: (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا. ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها؛ ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها. وسنجزي الشاكرين).. إن لكل نفس كتابا مؤجلا إلى أجل مرسوم. ولن تموت نفس حتى تستوفي هذا الأجل المرسوم. فالخوف والهلع، والحرص والتخلف، لا تطيل أجلا. والشجاعة والثبات والإقدام والوفاء لا تقصر عمرا. فلا كان الجبن، ولا نامت أعين الجبناء. والأجل المكتوب لا ينقص منه يوم ولا يزيد! بذلك تستقر حقيقة الأجل في النفس، فتترك الاشتغال به، ولا تجعله في الحساب، وهي تفكر في الأداء والوفاء بالالتزامات والتكاليف الإيمانية. وبذلك تنطلق من عقال الشح والحرص، كما ترتفع على وهلة الخوف والفزع. وبذلك تستقيم على الطريق بكل تكاليفه وبكل التزاماته، في صبر وطمأنينة، وتوكل على الله الذي يملك الآجال وحده. ثم ينتقل بالنفس خطوة وراء هذه القضية التي حسم فيها القول.. فإنه إذا كان العمر مكتوبا، والأجل مرسوما.. فلتنظر نفس ما قدمت لغد؛ ولتنظر نفس ماذا تريد.. أتريد أن تقعد عن تكاليف الإيمان، وأن تحصر همها كله في هذه الأرض، وأن تعيش لهذه الدنيا وحدها؟ أم تريد أن تتطلع إلى أفق أعلى، وإلى اهتمامات أرفع، وإلى حياة أكبر من هذه الحياة؟.. مع تساوي هذا الهم وذاك فيما يختص بالعمر والحياة؟! (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها. ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها). وشتان بين حياة وحياة! وشتان بين اهتمام واهتمام! -مع اتحاد النتيجة بالقياس إلى العمر والأجل- والذي يعيش لهذه الأرض وحدها، ويريد ثواب الدنيا وحدها.. إنما يحيا حياة الديدان والدواب والأنعام! ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب. والذي يتطلع إلى الأفق الآخر.. إنما يحيا حياة "الإنسان "الذي كرمه الله واستخلفه وأفرده بهذا المكان ثم يموت في موعده المضروب بأجله المكتوب.. (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا).. (وسنجزي الشاكرين).. الذين يدركون نعمة التكريم الإلهي للإنسان، فيرتفعون عن مدارج الحيوان؛ ويشكرون الله على تلك النعمة، فينهضون بتبعات الإيمان.. وهكذا يقرر القرآن حقيقة الموت والحياة، وحقيقة الغاية التي ينتهي إليها الأحياء، وفق ما يريدونه لأنفسهم، من اهتمام قريب كاهتمام الدود، أو اهتمام بعيد كاهتمام الإنسان! وبذلك ينقل النفس من الإنشغال بالخوف من الموت والجزع من التكاليف -وهي لا تملك شيئا في شأن الموت والحياة- إلى الإنشغال بما هو أنفع للنفس، في الحقل الذي تملكه، وتملك فيه الاختيار. فتختار الدنيا أو تختار الآخرة. وتنال من جزاء الله ما تختار!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فإن كانت من تتمة الإنكار على هلعهم عند ظنّ موت الرسول، فالمقصود عموم الأنفس لا خصوص نفس الرسول عليه السلام، وتكون الآية لوماً للمسلمين على ذهولهم عن حفظ الله رسولَه من أن يسلّط عليه أعداؤُه، ومن أن يخترم عمره قبل تبليغ الرسالة... وإن كان هذا إنكاراً مستأنفاً على الَّذين فزعوا عند الهزيمة وخافوا الموت، فالعموم في النفس مقصود أي ما كان ينبغي لكم الخوف وقد علمتم أنّ لكلّ نفس أجلاً. وجيء في هذا الحكم بصيغة الجحود للمبالغة في انتفاء أن يكون موت قبل الأجل، فالجملة، على هذا، معترضة، والواو اعتراضية، ومثل هذه الحقائق تلقى في المقامات الَّتي يقصد فيها مداواة النُّفوس من عاهات ذميمة، وإلاّ فإنّ انتهاء الأجل منوط بعلم الله لا يعلم أحد وقته، {وما تدري نفس بأي أرض تموت} [لقمان: 34]، والمؤمن مأمور بحفظ حياته، إلاّ في سبيل الله، فتعيّن عليه في وقت الجهاد أن يرجع إلى الحقيقة وهي أنّ الموت بالأجل، والمراد {بإذن الله} تقديره وقت الموت، ووضعه العلامات الدالة على بلوغ ذلك الوقت المقدّر، وهو ما عبّر عنه مرّة ب (كن)، ومرة بقدر مقدُور، ومرّة بالقلم، ومرّة بالكتاب. والكتاب في قوله: {كتاباً مؤجلاً} يجوز أن يكون اسماً بمعنى الشيء المكتوب، فيكون حالاً من الإذن، أو من الموت، كقوله: {لكل أجل كتاب} [الرعد: 38] و« مؤجّلاً» حالاً ثانية، ويجوز أن يكون {كتاباً} مصدر كاتب المستعمل في كتب للمبالغة، وقوله: {مؤجلاً} صفة له، وهو بدل من فِعله المحذوف، والتَّقدير: كُتِب كتاباً مؤجّلاً أي مؤقتاً...
{وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الاخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِى الشاكرين}. عطف على الجملة المعترضة. أي من يرد الدنيا دون الآخرة، كالَّذي يفضّل الحياة على الموت في سبيل الله أو كالَّذين استعجلوا للغنيمة فتسبّبوا في الهزيمة، وليس المراد أنّ من أراد ثواب الدنيا وحظوظها يُحرم من ثواب الآخرة وحظوظها، فإنّ الأدلّة الشرعية دلّت على أنّ إرادة خير الدنيا مقصد شرعي حسن، وهل جاءت الشريعة إلاّ لإصلاح الدنيا والإعداد لِحياة الآخرة الأبدية الكاملة، قال الله تعالى: {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة} [آل عمران: 148] وقال تعالى: {قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين} أي الغنيمة أو الشَّهادة، وغيرُ هذا من الآيات والأحاديث كثير. وجملة {وسنجزي الشاكرين} تذييل يعمّ الشاكرين ممّن يريد ثواب الدنيا ومن يريد ثواب الآخرة. ويعمّ الجزاء كلّ بحسبه، أي يجزي الشاكرين جزاء الدنيا والآخرة أو جزاء الدنيا فقط.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المعنى ما تحقق وما ثبت أنفس ان تموت إلا بإذن الله تعالى، وقد كتب لها كتابا مؤجلا، ومعنى الإذن هنا يتضمن ان لله تعالى الإرادة المطلقة في قبض النفوس وإرسالها، فهي لا تموت إلا بمشيئته، ولا تحيا إلا بإرادته، وقد عبر سبحانه وتعالى عن الإرادة بالإذن، وذلك للإشارة إلى انه إذا كان القتل في الحروب سببا للموت، فإنه ما دام لم يجئ الإذن الذي يعلن مشيئة الله تعالى قتلها، فهذا النص الكريم يؤكد معنيين: أحدهما:ان الموت بالإرادة الأزلية، وبالمشيئة الإلهية، فما لم يأذن فلا موت.والثاني:ان القتال مهما يكن شديدا فلن تموت نفس لم يكتب الله تعالى لها الموت، وهناك إشارات في الآية كثيرة: منها ان الموت لا يحتاج بالنسبة لله تعالى إلى أسباب، فليس إلا ان يأذن بقبض الروح فيكون الموت من غير أي مجهود يبذل... وقوله تعالى: {كتابا مؤجلا ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها} وإذا كان الأجل مكتوبا، فإن ذلك لا يمنع ان العمل مكسوب، فعلى كل ان يعمل، وكل ميسر لما خلق له، وكل يكون جزاؤه في الدنيا والآخرة، فمن يرد ثواب الدنيا أي جزاءها والنتائج المطلوبة فيها، ويسلك السبيل القاصد الذي يوصل إلى الغاية، وينتهي إلى النهاية، ويمكنه الله تعالى من الأسباب، ويسهل له الحصول على النتائج، ومن كان يريد الآخرة ويقصد وجه الله تعالى في كل ما يعمل، ويقصد إلى الدنيا لا لذاتها، بل على انها مزرعة الآخرة، فإن الله تعالى يؤتيه من ثواب الآخرة ما ادخره لعباده المتقين...
فالنص الكريم يثبت أن الدنيا لها وسائل، والنجاح فيها أسباب توصل إلى النتائج، والآخرة لها أسباب وذرائع، وعلى ذلك لا يكون النجاح في شئون الدنيا دليلا على القرب من الله تعالى، ولا الفشل فيها دليلا على البعد عن الله تعالى، ذلك قول الفجار، الذين يتخذون من سطوة الكفار مع كفرهم دليلا على انهم أقرب إلى الله من المؤمنين، ويغفلون عن قول الله تعالى: {ولولا ان يكون الناس امة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون33 ولبيوتهم أبوابا وسررا عليها يتكئون34 وزخرفا وغن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين35} [الزخرف]...
{وسنجزي الشاكرين}... هنا نجد النص لم يبين الجزاء، ولم يبين من الذين يتصفون بالشكر من طلاب الدنيا او طلاب الآخرة، وقد ترك الجزاء من غير بيان ليعم الجزاء الدنيوي، والجزاء الأخروي، فمن طلبوا الدنيا واتخذوا أسبابها، ونصروا الضعيف، وخذلوا القوي، وعمروا الأرض ولم يفسدوها، ولم يطرحوا ما عند الله تعالى بل طلبوه،كانوا من الشاكرين.واستحقوا الجزاءين:جزاء الدنيا بأن يصلوا إلى النتائج التي قصدوها، وهي العلو في الأرض من غير طغيان، والجزاء في الآخرة عند تجلي الرحمن. ولم يبين سبحانه من هم الشاكرون؟أهم طلاب الدنيا ام طلاب الآخرة، وذلك لأن المطلبين ليسا متضادين، بل غنهما يتلاقيان، وغنه عند التحقيق لا يعد طالب الدنيا سالكا طريقها إلا إذا طلب الآخرة فيها، وأذعن لقدرة الخالق في طلب الحياة الدنيا، فكل شيء عنده بمقدار، فمن اعتمد على الأسباب الدنيوية وحدها من غير تفويض الله معها فإنه يعاند قدرة الله، ولا ينجح له تدبير، ولا ينتهي إلى غاية في تفكير، {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير18} [الأنعام]. ولذلك كان الشكر مشتركا عند طلاب الدنيا إن طلبوها على وجهها وطلاب الآخرة، وإنه عند التحقيق أيضا طلب الآخرة لا ينقطع تماما عن طلب الدنيا، فإن الزهد في الإسلام طلب الحلال وليس إعراضا عن الدنيا، وإن من يحتطب لقوت أهله اعبد ممن ينقطع في صومعة للعبادة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ إن جماعة كثيرة من المسلمين أرعبوا وزلزلوا لشائعة مقتل النبي في أُحد كما أسلفنا إلى درجة أنهم تركوا ساحة المعركة، وفروا بأنفسهم من الموت وحتّى أن بعضهم فكر في الردة عن الإسلام فكان قوله سبحانه: (وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً) وهو يكرر توبيخهم، وتنبيههم إلى أن الموت بيد الله، والفرار لا ينفع في الخلاص من الأجل الإلهي، فإذا صحّ أن النبي قتل في المعركة ونال الشهادة لم يكن ذلك إلاّ تحقيقاً لسنة إلهية، فلماذا خاف المسلمون وكفوا عن القتال؟؟
ومن ناحية أخرى إن الفرار من المعركة لا يدفع الأجل كما أن مواصلة القتال والبقاء في المعركة لا يقرب هو الآخر أجلاً، فالفرار من ميدان الجهاد حفاظاً على النفس لغو لا فائدة فيه...
وبعد عرض هذه الحقائق يعقب سبحانه على ما قال بقوله: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها، ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) أي أن ما عمله الإنسان لا يضيع أبداً، فإن كان هدفه دنيوياً مادياً كما كان عليه بعض المقاتلين في «أُحد» فإنه سيحصل على ما يسعى إليه ويناله.
وأما إذا كان هدفه أسمى من ذلك، وصب جهوده في سبيل الحصول على الحياة الخالدة والفضائل الإنسانية بلغ إلى هدفه حتماً وأوتي ثواب الآخرة الذي هو أعظم من كلّ ثواب وأسمى من كلّ نتيجة، فلماذا إذن لا يصرف الإنسان جهوده، ويوظف ما أوتي من طاقات معنوية ومادية في الطريق الثاني وهو الطريق الخالد السامي؟
وتأكيداً لهذه الحقيقة قال سبحانه: مرة أخرى (وسنجزي الشاكرين).
والجدير بالتأمل أن الفعل في هذه العبارة جاء في الآية السابقة، بصيغة الغائب (سيجزي) وجاء هنا في صورة المتكلم «سنجزي» وهذا يفيد غاية التأكيد للوعد الإلهي بإعطاء الثواب لهم، فهو تدرج من الوعد العادي إلى الوعد المؤكد، فكأنّ الله يريد أن يقول وببساطة أنا ضامن لجزائهم وثوابهم.