قوله تعالى : { لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب وأنذرهم يوم الآزفة } ، يعني : يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها قريبة إذ كل ما هو آت قريب ، نظيره قوله عز وجل : { أزفت الآزفة } ( النجم-57 ) ، أي : قربت القيامة . { إذ القلوب لدى الحناجر } ، وذلك أنها تزول عن أماكنها من الخوف حتى تصير إلى الحناجر ، فلا هي تعود إلى أماكنها ، ولا هي تخرج من أفواههم فيموتوا ويستريحوا ، { كاظمين } ، مكروبين ممتلئين خوفاً وحزناً ، والكظم تردد الغيظ والخوف والحزن في القلب حتى يضيق به . { ما للظالمين من حميم } ، قريب ينفعهم ، { ولا شفيع يطاع } ، فيشفع فيهم .
ويستطرد السياق يوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إنذار القوم بذلك اليوم ، في مشهد من مشاهد القيامة يتفرد فيه الله بالحكم والقضاء ؛ بعدما عرضه عليهم في صورة حكاية لم يوجه لهم فيها الخطاب :
( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير ) . .
والآزفة . . القريبة والعاجلة . . وهي القيامة . واللفظ يصورها كأنها مقتربة زاحفة . والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ؛ وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على صدورهم ؛ وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب !
يوم الآزفة هو : اسم من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لاقترابها ، كما قال تعالى : { أَزِفَتِ الآزِفَةُ . لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ } [ النجم : 57 ، 58 ] وقال { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ } [ القمر : 1 ] ، وقال { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ } [ الانبياء : 1 ] وقال { أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] وقال { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } [ الملك : 27 ] .
وقوله : { إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ } [ أي ساكتين ] {[25479]} ، قال قتادة : وقفت القلوب في الحناجر من الخوف ، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها . وكذا قال عكرمة ، والسدي ، وغير واحد .
ومعنى { كَاظِمِينَ } أي : ساكتين ، لا يتكلم أحد إلا بإذنه { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [ النبأ : 38 ] .
وقال ابن جُرَيْج {[25480]} : { كَاظِمِينَ } أي : باكين .
وقوله : { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ } أي : ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم ، ولا شفيع يشفع فيهم ، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير .
{ وأنذرهم يوم الآزفة } أي القيامة سميت بها لأزوفها أي قربها ، أو الخطة الآزفة وهي مشارفتهم النار وقيل الموت . { إذ القلوب لدى الحناجر } فإنها ترتفع عن أماكنها فتلصق بحلوقهم فلا تعود فيتروحوا ولا تخرج فيستريحوا . { كاظمين } على الغم حال من أصحاب القلوب على المعنى لأنه على الإضافة ، أو منها أو من ضميرها في لدى وجمعه كذلك لأن الكظم من أفعال العقلاء كقوله : { فظلت أعناقهم لها خاضعين } . أو من مفعول { أنذرهم } على أنه حال مقدرة . { ما للظالمين من حميم } قريب مشفق . { ولا شفيع يطاع } ولا شفيع مشفع ، والضمائر إن كانت للكفار وهو الظاهر كان وضع الظالمين موضع ضميرهم للدلالة على اختصاص ذلك بهم وأنه لظلمهم .
أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالإنذار للعالم والتحذير من يوم القيامة وأهواله ، وهو الذي أراد ب { يوم الآزفة } ، قاله مجاهد وقتادة وابن زيد : ومعنى { الآزفة } : القريبة ، من أزف الشيء إذا قرب ، و { الآزفة } في الآية صفة لمحذوف قد علم واستقر في النفوس هوله ، فعبر عنه بالقرب تخويفاً ، والتقدير : يوم الساعة الآزفة أو الطامة الآزفة ونحو هذا فكما لو قال : وأنذرهم الساعة لعلم هولها بما استقر في النفوس من أمرها ، فكذلك علم هنا إذا جاء بصفتها التي تقتضي حلولها واقترابها .
وقوله : { إذ القلوب لدى الحناجر } معناه : عند الحناجر ، أي قد صعدت من شدة الهول والجزع ، وهذا أمر يحتمل أن يكون حقيقة يوم القيامة من انتقال قلوب البشر إلى حناجرهم وتبقى حياتهم ، بخلاف الدنيا التي لا تبقى فيها لأحد مع تنقل قلبه حياة ، ويحتمل أن يكون تجوزاً عبر عما يجده الإنسان من الجزع وصعود نفسه وتضايق حنجرته بصعود القلب ، وهذا كما تقول العرب : كادت نفسي أن تخرج ، وهذا المعنى يجده المفرط الجزع كالذي يقرب للقتل ونحو .
وقوله : { كاظمين } حال مما أبدل منه قوله : { إذ القلوب لدى الحناجر } أو مما تتضاف إليه القلوب ، لأن المراد إذ قلوب الناس لدى حناجرهم ، وهذا كقوله تعالى : { تشخص فيه الأبصار مهطعين إلى الداع }{[9979]} [ القمر : 8 ] أراد تشخص فيه أبصارهم ، والكاظم : الذي يرد غيظه وجزعه في صدره ، فمعنى الآية أنهم يطمعون برد ما يجدونه في الحناجر والحال تغالبهم . ثم أخبرهم تعالى أن الظالمين ظلم الكفر في تلك الحال ليس لهم حميم ، أي قريب يحتم لهم ويتعصب ، ولا لهم شفيع يطاع فيهم ، وإن هم بعضهم بالشفاعة لبعض فهي شفاعة لا تقبل ، وقد روي أن بعض الكفرة يقولون لإبليس يوم القيامة : اشفع لنا ، فيقوم ليشفع ، فتبدو منه أنتن ريح يؤذي بها أهل المحشر ، ثم ينحصر ويكع ويخزى . و : { يطاع } في موضع الصفة ل { شفيع } ، لأن التقدير : ولا شفيع يطاع ، وموضع { يطاع } يحتمل أن يكون خفضاً حملاً على اللفظ ، ويحتمل أن يكون رفعاً عطفاً على الموضع قبل دخول { من } .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية كلها عندي اعتراض في الكلام بليغ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأنذرهم} يعني النبي صلى الله عليه وسلم أنذر أهل مكة.
{يوم الآزفة} يعني اقتراب الساعة.
{إذ القلوب لدى الحناجر} وذلك أن الكفار إذا عاينوا النار في الآخرة شخصت أبصارهم إليها فلا يطرفون، وأخذتهم رعدة شديدة من الخوف فشهقوا شهقة فزالت قلوبهم من أماكنها فنشبت في حلوقهم فلا تخرج من أفواههم ولا ترجع إلى أماكنها أبدا، فذلك قوله تعالى: {إذ القلوب} يعني عند {لدى الحناجر} {كاظمين} يعني مكروبين.
{ما للظالمين} يعني المشركين {من حميم} يعني قريب ينفعهم {ولا شفيع يطاع} فيهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه: وأنذر يا محمد مشركي قومك يوم الآزفة، يعني يوم القيامة، أن يُوافُوا الله فيه بأعمالهم الخبيثة، فيستحقوا من الله عقابه الأليم...
"إذِ القُلُوبُ لَدَى الحَناجِرِ كاظِمينَ": إذ قلوب العباد من مخافة عقاب الله لدى حناجرهم قد شخصت من صدورهم، فتعلقت بحلوقهم كاظميها، يرومون ردّها إلى مواضعها من صدورهم فلا ترجع، ولا هي تخرج من أبدانهم فيموتوا...
"ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ": ما للكافرين بالله يومئذ من حميم يحم لهم، فيدفع عنهم عظيم ما نزل بهم من عذاب الله، ولا شفيع يشفع لهم عند ربهم فيطاع فيما شفع، ويُجاب فيما سأل... ومعنى الكلام: ما للظالمين من حميم ولا شفيع إذا شفع أطيع فيما شفع، فأجيب وقبلت شفاعته له...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ} سمّى ذلك اليوم يوم الآزفة لقربه ودُنوّه منه، وعلى ذلك سمّاه [لغد] [الحشر: 18]] و {قريبا} [الحشر: 15] كقوله: {اقترب للناس حسابهم} [الأنبياء: 1] يقال: أزِف فلان إلى فلان، أي قرُب، ودنا منه، ومعناه: أي أنذرهم بما إليه مرجع عاقبتهم، ومصيرهم؛ لأن أهل العقل والتمييز إنما يعملون، ويسعون للعاقبة، وما إليه ترجع أمورهم، وهو ذلك اليوم.
{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} يخبر عن شدة حالهم وفزعهم في ذلك اليوم؛ ليس أن تزول قلوبهم عن أمكنتها، وترتفع إلى الحناجر حقيقة، ولكنه وصف لشدة حالهم في ذلك، وكثرة خوفهم وفزعهم وضيق صدورهم، وهو كقوله تعالى: {ضاقت عليهم الأرض بما رَحُبت} [التوبة: 118].
والحناجر، هي مواضع الذبح من الشاة وغيرها من الدواب، واحدتها حنجرة.
{كَاظِمِينَ} قال بعضهم: الكاظم المغموم الذي يتردّد حزنه في جوفه غيظا لما كان منه في الدنيا، وقيل: الكاظم الذي لا يتكلم، قد كُظم من الخوف، وقيل: الذي لا يفتح فمه، وهو قريب بعضهم من بعض...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
يجوز أن يريد بيوم الآزفة: وقت الخطة الآزفة، وهي مشارفتهم دخول النار.
المطاع: مجاز في المشفع، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلاّ لمن فوقك، فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: {وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ}؟ قلت: يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معاً، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة، فإن قلت فعلى أي الاحتمالين يجب حمله؟ قلت: على نفي الأمرين جميعاً، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلاّ من أحبه الله ورضيه، وأنّ الله لا يحبّ الظالمين، فلا يحبونهم، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم. قال الله تعالى: {وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ} [البقرة: 270]؛ ولأن الشفاعة لا تكون إلاّ في زيادة التفضل، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب، بدليل قوله تعالى: {وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ} [النساء: 174] وعن الحسن رضي الله عنه: والله ما يكون لهم شفيع البتة.
اعلم أن المقصود من هذه الآية وصف يوم القيامة بأنواع أخرى من الصفات الهائلة المهيبة، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: ذكروا في تفسير يوم الآزفة وجوها:
القول الثالث: قال أبو مسلم يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل، والذي يدل عليه أنه تعالى وصف يوم القيامة بأنه يوم التلاق، و {يوم هم بارزون} ثم قال بعده {وأنذرهم يوم الآزفة} فوجب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم، وأيضا هذه الصفة مخصوصة في سائر الآيات بيوم الموت قال تعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون} وأيضا فوصف يوم الموت بالقرب أولى من وصف يوم القيامة بالقرب، وأيضا الصفات المذكورة بعد قوله الآزفة لائقة بيوم حضور الموت لأن الرجل عند معاينة ملائكة العذاب يعظم خوفه، فكأن قلوبهم تبلغ حناجرهم من شدة الخوف، ويبقوا كاظمين ساكتين عن ذكر ما في قلوبهم من شدة الخوف، ولا يكون لهم حميم ولا شفيع يدفع ما بهم من أنواع الخوف والقلق.
المسألة الرابعة: في بيان نظم الآية، فنقول إنه تعالى ذكر في هذه الآية جميع الأسباب الموجبة للخوف؛
فأولها: أنه سمى ذلك اليوم يوم الآزفة، أي يوم القرب من عذابه لمن ابتلي بالذنب العظيم، لأنه إذا قرب زمان عقوبته كان في أقصى غايات الخوف حتى قيل إن تلك الغموم والهموم أعظم في الإيحاش من عين تلك العقوبة.
والثاني: قوله {إذ القلوب لدى الحناجر} والمعنى أنه بلغ ذلك الخوف إلى أن انقلع القلب من الصدر وارتفع إلى الحنجرة والتصق بها وصار مانعا من دخول النفس.
والثالث: قوله {كاظمين} والمعنى أنه لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يشرحوا ما عندهم من الحزن والخوف، وذلك يوجب مزيد القلق والاضطراب.
والرابع: قوله {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} فبين أنه ليس لهم قريب.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما تم هذا على هذا الوجه المهول، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله، منها يوم البعث وهو ظاهر، ومنها يوم التلاق لما تقدم، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم: وأمن ممن ألقينا إليك هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة: {وأنذرهم} أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن {يوم الآزفة} أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس، وهي القيامة، كرر ذكرها وذكر الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها.
ولما ذكر اليوم، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال: {إذ القلوب} أي من كل من حضره. ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن، عبر ب "لدى "فقال: {لدى الحناجر} أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى، يعني أنها زالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الأفئدة هواء، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا.
ولما كان الحديث -وإن كان في الظاهر عن القلوب- إنما هو عن أصحابها، جمع على طريقة جمع العقلاء، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم، وبها صلاح الجملة وفسادها، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال: {كاظمين} أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً، ساكتين مكروبين، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم. ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات، قال مستأنفاً: {ما للظالمين} أي العريقين في الظلم منهم {من حميم} أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم، قال ابن برجان: والحميم: الماء الحار الناهي في الحرارة، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً {ولا شفيع يطاع *} أي ليس لهم شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك، فيبرأ منهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
هذه الآيات تستمر كالآيات السابقة في وصف القيامة يوم التلاقي وتحدّد سبع خصائص للقيامة والحوادث المهولة والمدهشة التي تدفع بكل انسان مؤمن نحو التفكير والتأمل بالحياة والمصير.
يقول تعالى: (وأنذرهم يوم الآزفة).
«الآزفة» باللغة بمعنى (القريب) ويا لها من كناية عجيبة، حيث أطلق سبحانه على يوم القيامة يوم الآزفة كي لا يظن الجهلة أن هناك فترة طويلة تفصلهم عن ذلك اليوم، فلا ينبغي والحال هذه أن ينشغل المرء بالتفكير به!
وإذا نظرنا بتأمّل فسنجد أنّ عمر الدنيا بأجمعه لا يعادل سوى لحظة زائلة حيال يوم القيامة، ولأنّ الله تبارك وتعالى لم يذكر أي تأريخ لهذا اليوم المهول، حتى للأنبياء (عليهم السلام)، لذا يجب الاستعداد دائماً لاستقبال ذلك اليوم.
الوصف الثّاني ليوم الآزقة هو: (إذ القلوب لدى الحناجر) من شدة الخوف. فعندما تواجه الإنسان الصعوبات يشعر وكأنّ قلبه يفر من مكانه، وكأنّهُ يريد أن يخرج من حنجرته، والعرب في ثقافتها اللغوية التي نزل بها القرآن تطلق على هَذِهِ الحالة وصف «بلغت القلوب الحناجر».
ويمكن أن يكون (القلب) كناية عن (الروح) بمعنى أنّ روحه بلغت حنجرته هلعاً وخوفاً، كأنما تريد أن تفارق بدنه تدريجياً ولم يبق منها سوى القليل.
إنّ هول الخوف من الحساب الإلهي الرباني الدقيق، والخشية من الافتضاح وانكشاف الستر والحجب أمام جميع الخلائق، وتحمّل العذاب الأليم الذي لا يمكن الخلاص منه، كلّ هذه أُمور سيواجهها الإنسان ولا يمكن وصفها وشرحها بأي بيان.
الصفة الثّالثة لذلك اليوم تعبر عنها الآية ب (كاظمين) أي إنّ الهم والغم سيشمل كل وجودهم، إلاّ أنّهم لا يستطيعون إظهار ذلك أو إبداءه.
«كاظم» مشتقّة من «كظم» وهي في الأصل تعني غلق فوهة القربة المملوءة بالماء؛ ثمّ أطلقت بعد ذلك على الأشخاص المملوئين غضباً إلاّ أنّهم لا يظهرونه لسبب من الأسباب.
قد يستطيع الإنسان المغموم المحزون أن يهدأ أو يستريح بالصراخ، لكن المصيبة حينما لا يستطيع هذا الإنسان حتى عن الصراخ... فماذا ينفع الصراخ في محضر الخالق جلّ وعلا وفي ساحة عدله وعندما تنكشف جميع الأسرار أمام جميع الخلائق.
الصفة الرّابعة ليوم التلاقي هو يوم: (ما للظالمين من حميم). أي صديق نعم، أنّ تلك المجموعة من الأصدقاء الكذابين التي تحيط بالشخص كذباً وتملقاً كما يحيط الذباب بالحلويات طمعاً في مقامه وقدرته وجاهه وماله. إنّ هؤلاء في هذا اليوم مشغولون بأنفسهم لا ينفعون أحداً... وهو يوم لا تنفع فيه لا صداقة ولا خلّة.
الصفة الخامسة تقول عنها الآية: (ولا شفيع يطاع).
ذلك أنّ شفاعة الشفعاء الحقيقيين كالأنبياء والأولياء إنّما تكون بإذن الله تعالى، وعلى هذا الأساس لا مجال لتلك التصورات السقيمة لعبدة الأصنام، الذين كانوا يعتقدون في الحياة الدنيا أنّ أصنامهم ستشفع لهم في حضرة الله جلّ وعلا.