الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{وَأَنذِرۡهُمۡ يَوۡمَ ٱلۡأٓزِفَةِ إِذِ ٱلۡقُلُوبُ لَدَى ٱلۡحَنَاجِرِ كَٰظِمِينَۚ مَا لِلظَّـٰلِمِينَ مِنۡ حَمِيمٖ وَلَا شَفِيعٖ يُطَاعُ} (18)

الآزفة : القيامة ، سميت بذلك لأزوفها ، أي : لقربها . ويجوز أن يريد بيوم الآزفة : وقت الخطة الآزفة ، وهي مشارفتهم دخول النار ، فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم ، فلا هي تخرج فيموتوا ، ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا ويتروّحوا ، ولكنها معترضة كالشجا ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] .

فإن قلت : { كاظمين } بما انتصب ؟ قلت : هو حال عن أصحاب القلوب على المعنى ، لأن المعنى : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها . ويجوز أن يكون حالاً عن القلوب ، وأن القلوب كاظمة على غمّ وكرب فيها مع بلوغها الحناجر ، وإنما جمع الكاظم جمع السلامة ، لأنه وصفها بالكظم الذي هو من أفعال العقلاء ، كما قال تعالى : { رَأَيْتُهُمْ لِى سَاجِدِينَ } [ يوسف : 4 ] وقال : { فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خَضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] وتعضده قراءة من قرأ : «كاظمون » ويجوز أن يكون حالاً عن قوله : وأنذرهم ، أي : وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم ، كقوله تعالى : { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] الحميم : المحب المشفق . والمطاع : مجاز في المشفع ، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر في أنها لا تكون إلاّ لمن فوقك .

فإن قلت : ما معنى قوله تعالى : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ؟ قلت : يحتمل أن يتناول النفي الشفاعة والطاعة معاً ، وأن يتناول الطاعة دون الشفاعة ، كما تقول : ما عندي كتاب يباع ، فهو محتمل نفي البيع وحده ، وأن عندك كتاباً إلا أنك لا تبيعه ، ونفيهما جميعاً ، وأن لا كتاب عندك ، ولا كونه مبيعاً . ونحوه :

وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ ***

يريد : نفي الضب وانجحاره .

فإن قلت : فعلى أي الاحتمالين يجب حمله ؟ قلت : على نفي الأمرين جميعاً ، من قبل أن الشفعاء هم أولياء الله ، وأولياء الله لا يحبون ولا يرضون إلاّ من أحبه الله ورضيه ، وأنّ الله لا يحبّ الظالمين ، فلا يحبونهم ، وإذا لم يحبوهم لم ينصروهم ولم يشفعوا لهم . قال الله تعالى : { وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ } [ البقرة : 270 ] وقال : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ولأن الشفاعة لا تكون إلاّ في زيادة التفضل ، وأهل التفضل وزيادته إنما هم أهل الثواب ، بدليل قوله تعالى : { وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ } [ النساء : 174 ] وعن الحسن رضي الله عنه : والله ما يكون لهم شفيع البتة ،

فإن قلت : الغرض حاصل بذكر الشفيع ونفيه ، فما الفائدة في ذكر هذه الصفة ونفيها ؟ قلت : في ذكرها فائدة جليلة ، وهي أنها ضمت إليه ، ليقام انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة ، لأن الصفة لا تتأتى بدون موصوفها ، فيكون ذلك إزالة لتوهم وجود الموصوف ، بيانه : أنك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت : ما لي فرس أركبه ، ولا معي سلاح أحارب به ، فقد جعلت عدم الفرس وفقد السلاح علة مانعة من الركوب والمحاربة ، كأنك تقول : كيف يتأتى مني الركوب والمحاربة ولا فرس لي ولا سلاح معي ، فكذلك قوله : { وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } معناه : كيف يتأتى التشفيع ولا شفيع ، فكان ذكر التشفيع والاستشهاد على عدم تأتيه بعدم الشفيع : وضعاً لانتفاء الشفيع موضع الأمر المعروف غير المنكر الذي لا ينبغي أن يتوهم خلافه .