قوله عز وجل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدثنا عن التوراة ، فإن فيها العجائب ، فنزلت : { نحن نقص عليك أحسن القصص }( يوسف- 3 ) ، فأخبرهم أن القرآن أحسن قصصاً من غيره ، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ، ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزل : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً }( الزمر- 23 ) ، فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا : حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية . فعلى هذا التأويل ، قوله { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } يعني في العلانية وباللسان . وقال الآخرون نزلت في المؤمنين . قال عبد الله بن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا أربع سنين . وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال : { ألم يأن } ألم يحن { للذين آمنوا أن تخشع } : ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله ، { وما نزل } قرأ نافع ، وحفص عن عاصم بتخفيف الزاي ، وقرأ الآخرون بتشديدها ، { من الحق } وهو القرآن ، { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } وهم اليهود والنصارى ، { فطال عليهم الأمد } الزمان بينهم وبين أنبيائهم ، { فقست قلوبهم } قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله ، والمعنى أن الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر . روي أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال لهم : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم . { وكثير منهم فاسقون } يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } .
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ? ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ، اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها . قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون ) . .
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم ؛ واستبطاء للإستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله ؛ فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها ، ونزل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور ؛ وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر .
عتاب فيه الود ، وفيه الحض ، وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله ، والخشوع لذكره ، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام ، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال :
( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ? ) . .
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة ، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء ، وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله ، وحين لا تخشع للحق :
( ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ، فطال عليهم الأمد ، فقست قلوبهم ، وكثير منهم فاسقون ) . .
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج .
إن هذا القلب البشري سريع التقلب ، سريع النسيان . وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور ، ويرف كالشعاع ؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا ، وانطمست إشراقته ، وأظلم وأعتم ! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع ، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة .
يقول الله تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي : تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن ، فتفهمه وتنقادُ له وتسمع له وتطيعه .
قال عبد الله بن المبارك : حدثنا صالح المُرِّي ، عن قتادة ، عن ابن عباس أنه قال : إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } الآية ، رواه ابن أبي حاتم ، عن الحسن بن محمد بن الصباح ، عن حسين المروزي ، عن ابن المبارك ، به .
ثم قال هو ومسلم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال - يعني الليث - عن عون بن عبد الله ، عن أبيه ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } [ الآية ]{[28264]} إلا أربع سنين{[28265]}
كذا رواه مسلم في آخر الكتاب . وأخرجه النسائي عند تفسير هذه الآية ، عن هارون بن سعيد الأيلي ، عن ابن وهب ، به{[28266]} وقد رواه ابن ماجة من حديث موسى بن يعقوب الزمعي{[28267]} عن أبي حزم ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، مثله{[28268]} فجعله من مسند بن الزبير . لكن رواه البزار في مسنده من طريق موسى بن يعقوب ، عن أبي حازم ، عن عامر ، عن بن الزبير ، عن ابن مسعود ، فذكره{[28269]}
وقال سفيان الثوري ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : مَلَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملة ، فقالوا : حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] قال : ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله ، فأنزل الله تعالى : { اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] . ثم ملوا ملة فقالوا : حدثنا يا رسول الله . فأنزل الله : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } {[28270]}
وقال قتادة : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } ذُكِرَ لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول ما يرفع{[28271]} من الناس الخشوع " {[28272]}
وقوله : { وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم واشتروا به ثمنًا قليلا ونبذوه وراء ظهورهم ، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة ، وقلدوا الرجال في دين الله ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد .
{ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : في الأعمال ، فقلوبهم فاسدة ، وأعمالهم باطلة . كما قال : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } [ المائدة : 13 ] ، أي : فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وتركوا الأعمال التي أمروا بها ، وارتكبوا ما نهو عنه ؛ ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية .
وقد قال بن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا شهاب بن خِراش ، حدثنا حجاج بن دينار ، عن منصور بن المعتمر ، عن الربيع بن أبي عَمِيلة الفزاري قال : حدثنا عبد الله بن مسعود حديثًا ما سمعت أعجب إليَّ منه ، إلا شيئًا من كتاب الله - أو : شيئًا قاله النبي صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابًا من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم{[28273]} واستلذته ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم فقالوا : تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ، فمن تابعنا عليه تركناه ، ومن كره أن يتابعنا{[28274]} قتلناه . ففعلوا ذلك ، وكان فيهم رجل فقيه ، فلما رأي ما يصنعون عَمَدَ إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ، ثم أدرجه ، فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل ، فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم ، فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ، وإن أبى فاقتلوه . فدعوا فلانًا ذلك الفقيه فقالوا : تؤمن بما في كتابنا ؟ قال : وما فيه ؟ اعرضوه عليَّ . فعرضوه عليه إلى آخره ، ثم قالوا : أتؤمن بهذا ؟ قال : نعم ، آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن - فتركوه ، فلما مات نبشوه فوجدوه مُتَعَلِّقًا{[28275]} ذلك القرن ، فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ، فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ، ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة . فافترقت بنو إسرائيل على ثنتين وسبعين ملة ، وخير ملَلهم ملة أصحاب ذي القرن " .
قال ابن مسعود : [ وإنكم ] {[28276]} أوشك بكم إن بقيتم - أو : بقي من بقي منكم{[28277]} - أن تروا أمورا تنكرونها ، لا تستطيعون لها غِيَرًا ، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره .
وقال أبو جعفر الطبري : حدثنا ابن{[28278]} حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم قال : جاء عتريس بن عُرقوب{[28279]} إلى بن مسعود فقال : يا أبا عبد الله{[28280]} هلك من لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر . فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبُه معروفًا ولم ينكر قلبُه منكرًا ؛ إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ، اخترعوا كتابًا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض على بني إسرائيل هذا الكتاب فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه . قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قَرْن ، ثم جعل القرن بين ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال آمنت به - ويومئ إلى القرن بين ثَنْدُوتيه - ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب ؟ فمن خير مِلَلِهم اليوم مِلَّة صاحب القَرن{[28281]}
القول في تأويل قوله تعالى : { أَلَمْ يَأْنِ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقّ وَلاَ يَكُونُواْ كَالّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : أَلمْ يَأَنِ للّذِينَ آمَنُوا : ألم يحن للذين صدّقوا الله ورسوله أن تلين قلوبهم لذكر الله ، فتخضع قلوبهم له ، ولما نزل من الحقّ ، وهو هذا القرآن الذي نزّله على رسوله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أَلَمْ يَأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ قال : تطيع قلوبهم .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرِمة ألَمْ يأَنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ . . . .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : أَلَمْ يأنِ لِلّذِينَ آمَنُوا أنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّهِ . . . الآية . ذُكر لنا أن شدّاد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إن أوّلَ ما يُرْفَعُ مِنَ النّاس الخُشُوعُ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : كان شدّاد بن أوس يقول أوّل ما يرفع من الناس الخشوع .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَما نَزَلَ مِنَ الحَقّ فقرأته عامة القرّاء غير شيبة ونافع بالتشديد «نَزّل » ، وقرأه شيبة ونافع ، وما نزل بالتخفيف ، وبأيّ القراءتين قرأ القارىء فمصيب ، لتقارب معنييهما .
وقوله : وَلا يَكُونُوا كالّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِن قَبْل فَطالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ يقول تعالى ذكره : ألم يأن لهم أن ولا يكونوا ، يعني الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم كالّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ يعني من بني إسرائيل ، ويعني بالكتاب الذي أوتوه من قبلهم التوراة والإنجيل . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مُغيرة ، عن أبي معشر ، عن إبراهيم ، قال : جاء عتريس ابن عرقوب إلى ابن مسعود ، فقال : يا عبد الله هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ، فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ، ولم ينكر قلبه منكرا ، إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد ، وقست قلوبهم اخترعوا كتابا من بين أيديهم وأرجلهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم ، وقالوا : نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب ، فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه قال : فجعل رجل منهم كتاب الله في قرن ، ثم جعل القَرَن بين ثندُوَتَيْهِ فلما قيل له : أتؤمن بهذا ؟ قال : آمنت به ، ويومىء إلى القرن الذي بين ثندُوَتَيْهِ ، ومالي لا أومن بهذا الكتاب ، فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن .
ويعني بقوله : فَطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ ما بينهم وبين موسى صلى الله عليه وسلم ، وذلك الأمد الزمان . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله : الأَمَدُ قال : الدهر .
وقوله : فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ عن الخيرات ، واشتدّت على السكون إلى معاصي الله وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ يقول جلّ ثناؤه : وكثير من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب من قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاسقون .
ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ألم يأت وقته يقال أني الأمر يأني أنيا وأنا إذا جاء إناه وقرئ ألم يئن بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى وألما يأن روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت وما نزل من الحق أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله وقرأ نافع وحفص ويعقوب نزل بالتخفيف وقرئ أنزل ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل عطف على تخشع وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم فقست قلوبهم وقرئ الأمد وهو الوقت الأطول وكثير منهم فاسقون خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة .
قد علم من صدر تفسير هذه السورة أن هذه الآية نزلت بمكة سنة أربع أو خمس من البعثة رواه مسلم وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلى { وكثير منهم فاسقون } إلا أرْبَعُ سنين .
والمقصود من { الذين آمنوا } : إما بعض منهم ربما كانوا مقصرين عن جمهور المؤمنين يومئذٍ بمكة فأراد الله إيقاظ قلوبهم بهذا الكلام المجمل على عادة القرآن وأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم في التعريض مثل قوله : " ما بال أقوام يفعلون كذا " وقوله تعالى : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية } [ آل عمران : 154 ] . وليس ما قاله ابن مسعود مقتضياً أن مثله من أولئك الذين ذكرهم الله بهذه الآية ولكنه يخشى أن يكون منهم حذراً وحيطة .
فالمراد ب { الذين آمنوا } المؤمنون حقاً لا من يُظهرون الإيمان من المنافقين إذ لم يكن في المسلمين بمكة منافقون ولا كان دَاع إلى نِفاق بعضهم . وعن ابن مسعود « لما نزلت جعل بَعضنا ينظر إلى بعض ونَقول : ما أحدثْنا » .
وإما أن يكون تحريضاً للمؤمنين على مراقبة ذلك والحذرِ من التقصير .
والهمزة في { ألم يأن } للاستفهام وهو استفهام مستعمل في الإنكار ، أي إنكار نفي اقتراب وقت فاعل الفعل .
ويجوز أن يكون الاستفهام للتقرير على النفي ، وفعل { يأن } مشتق من اسم جامد وهو الإِنَى بفتح الهمزة وكسرها ، أي الوقت قال تعالى : { غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] . وقريب من قوله : { ألم يأن } قولهم : أما آن لك أن تفعل ، مثل ما ورد في حديث إسلام عمر بن الخطاب من قول النبي صلى الله عليه وسلم له " أَمَا آنَ لك يا ابنَ الخطاب أن تُسلم " وفي خبر إسلام أبي ذر من أن علي بن أبي طالب وجده في المسجد الحرام وأراد أن يُضيفه وقال له : « أما آن للرجل أن يعرِف منزله » يريد : أن يعرف منزلي الذي هو كمنزله . وهذا تلطف في عرض الاستضافة ، إلا أن فعل { يأن } مشتق من الإِنى وهو فعل منقوص آخره ألف . وفعل : آن مشتق من الأَين وهو الحين وهو فعل أجوف آخره نون .
فأصل : أنى أَنِيَ وأصل آنَ : آوِن وآل معنى الكلمتين واحد .
واللام للعلة ، أي ألم يأن لأجل الذين آمنوا الخشُوع ، أي ألم يحقَّ حضوره لأجْلهم .
و { أن تخشع } فاعل { يأن } ، والخشوع : الاستكانة والتذلل .
و { ذِكْر الله } ما يذكرهم به النبي صلى الله عليه وسلم أو هو الصلاة . و { ما نزل من الحق } القرآن ، قال تعالى : { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } [ الأنفال : 2 ] .
ويجوز أن يكون الوصفان للقرآن تشريفاً له بأنه ذكر الله وتعريفاً لنفعه بأنه نزل من عند الله ، وأنه الحق ، فيكون قوله : { وما نزل من الحق } عطف وصف آخر للقرآن مثل قول الشاعر أنشده في « الكشاف » :
إلى الملك القِرْم وابن الهمّام*** البيت . . .
واللام في { لذكر الله } لام العلة ، أي لأجل ذكر الله .
ومعنى الخشوع لأجله : الخشوع المسبب على سماعه وهو الطاعة والامتثال .
وقرأ نافع وحفص عن عاصم { وما نزل } بتخفيف الزاي . وقرأه الباقون بتشديد الزاي على أن فاعل { نزل } معلوم من المقام ، أي الله .
و { لا يكونوا } قرأه الجمهور بياء الغائب . وقرأه رويس عن يعقوب { ولا تكونوا } بتاء الخطاب .
و { لا } نافية على قراءة الجمهور والفعل معمول ل « أنْ » المصدرية التي ذكرت قبله ، والتقدير : ألم يأن لهم أن لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب . وعلى قراءة رويس عن يعقوب فتاء الخطاب الالتفات و ( لا ) نافية ، والفعل منصوب بالعطف كقراءة الجمهور ، أو ( لا ) ناهية والفعل مجزوم والعطف من عطف الجُمل .
والمقصود التحذير لا أنهم تلبسوا بذلك ولم يأن لهم الاقلاع عنه . والتحذير مُنْصَبٌّ إلى ما حدث لأهل الكتاب من قسوة القلوب بعد طول الأمد عليهم في مزاولة دينهم ، أي فليحذر الذين آمنوا من أن يكونوا مثلهم على حدثان عهدهم بالدين . وليس المقصود عذر الذين أوتوا الكتاب بطول الأمد عليهم لأن طول الأمد لا يكون سبباً في التفريط فيما طال فيه الأمدُ بل الأمر بالعكس ولا قصدُ تهوين حصوله للذين آمنوا بعد أن يطول الأمد لأن ذلك لا يتعلق به الغرض قبل طول الأمد ، وإنما المقصود النهي عن التشبه بالذين أوتوا الكتاب في عدم خشوع قلوبهم ولكنه يفيد تحذير المؤمنين بعد أن يطول الزمان من أن يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب . ويستتبع ذلك الأنباءَ بأن مدة المسلمين تطول قريباً أو أكثر من مدة أهل الكتاب الذين كانوا قبل البعثة ، فإن القرآن موعظة للعصور والأجيال .
ويجوز أن تجعل ( لا ) حرف نهي وتعلق النهي بالغائب التفاتاً أو المراد : أَبْلِغْهم أن لا يكونوا .
وفاء { فطال عليهم الأمد } لتفريع طول الأمد على قسوة القلوب من عدم الخشوع ، فهذا التفريع خارج عن التشبيه الذي في قوله : { كالذين أوتوا الكتاب من قبل } ، ولكنه تنبيه على عاقبة ذلك التشبيه تحذيراً من أن يصيبهم مثل ما أصاب الذين أوتوا الكتاب من قبل . والأمد : الغاية من مكان أو زمان والمراد به هنا : المدة التي أوصوا بأن يحافظوا على اتباع شرائعهم فيها المغيَّاةُ بمجيء الرسول صلى الله عليه وسلم المبشر في الشرائع { وإذا أخذ الله ميثاق النبييئن لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه } [ آل عمران : 81 ] . والمعنى : أنهم نَسُوا ما أوصوا به فخالفوا أحكام شرائعهم ولم يخافوا عقاب الله يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً ، وصار ديدناً لهم رويداً رويداً حتى ضرئوا بذلك ، فقست قلوبهم ، أي تمردت على الاجتراء على تغيير أحكام الدين .
وجملة { وكثير منهم فاسقون } اعتراض في آخر الكلام . والمعنى : أن كثيراً منهم تجاوزوا ذلك الحَدَّ من قسوة القلوب فنبذوا دينهم وبدلوا كتابهم وحرفوه وأفسدوا عقائدهم فبلغوا حدّ الكفر . فالفسق هنا مراد به الكفر كقوله تعالى : { قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثرهم فاسقون } [ المائدة : 59 ] ، أي غير مؤمنين بدليل المقابلة بقوله : { آمنا بالله } إلى آخره . وبين قوله : { فقست } وقوله : { فاسقون } محسّن الجناس . وهذا النوع فيه مركب مما يسمى جناس القلب وما يسمى الجناس الناقص وقد اجتمعا في هذه الآية .