الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية . قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدّثنا عمّا في التوراة فإن فيها العجائب ، فنزلت الآية

{ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [ يوسف : 1 ] إلى قوله

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] فخبّرهم بأن هذا القرآن أحسن من غيره وأنفع لهم ، فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم [ عادوا ] فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزلت

{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] الآية . فكفّوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ثم ( عادوا ) أيضاً فسألوا فقالوا : حدّثنا عن التوراة فإن فيها العجائب ، ونزلت هذه الآية .

فعلى هذا القول يكون تأويل الآية { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } في العلانية واللسان .

وقال غيرهما : نزلت في المؤمنين .

قال عبد الله بن مسعود : مَلَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله لو حدّثتنا فأنزل الله عزّوجل

{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } [ الزمر : 23 ] الآية .

فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله عزّوجل

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [ يوسف : 3 ] الآية .

فقالوا : يا رسول الله لو ذكّرتنا ووعظتنا . فأنزل الله عزّوجل هذه الآية .

وقال ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلاّ أربع سنين ، فجعل المؤمنون يعاتب بعضهم بعضاً .

وقال ابن عباس : إن الله تعالى استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال { أَلَمْ يَأْنِ } يحن { لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ } ترق وتلين وتخضع { قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ } .

قرأ شيبة ونافع وعاصم برواية المفضل وحفص : خفيفة الزاي ، غيرهم : مشددة .

{ مِنَ الْحَقِّ } وهو القرآن ، قال مجاهد : نزلت هذه الآية في المتعرّبين بعد الهجرة .

أخبرنا عبد الله بن حامد ، حدّثنا محمد بن خالد ، حدّثنا سليمان بن داود ، حدّثنا عبد بن حميد ، حدّثنا يزيد بن هارون ، حدّثنا الحسام بن المصك عن الحسن عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أول ما يرفع من الناس الخشوع " .

{ وَلاَ يَكُونُواْ } يعني وألاّ يكونوا ، محله نصب بالعطف على { تَخْشَعَ } قال الأخفش : وإن شئت جعلته نهياً فيكون مجازه : ولا يكونن ، ودليل هذا التأويل رواية يونس عن يعقوب أنه قرأ : ( ولا تكونوا ) بالتاء .

{ كَالَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلُ } وهم اليهود والنصارى . { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ } الزمان والدهر والغاية بينهم وبين أنبيائهم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } .

روى الأعمش عن عمارة بن عمير عن الربيع بن عُميلة ، حدّثنا عبد الله حدّثنا ، ما سمعت حدّثنا هو أحسن منه إلاّ كتاب الله عزّوجل أو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، فقالوا : إعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فأتركوهم ، وإن خالفوكم فاقتلوهم ، ثم قالوا : لا بل أرسلوا إلى فلان رجلا من علمائهم فاعرضوا عليه الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فإقتلوه فلن يختلف عليكم بعده أحد .

فأرسلوا إليه ، فأخذ ورقة فكتب فيها كتاب الله عزّوجل ثم جعلها في قَرن ثم علّقها في عنقه ، ثم لبس عليه الثياب ، ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا ، ومالي لا أومن بهذا ؟ يعني الكتاب الذي في القَرن ، فخلّوا سبيله .

وكان له أصحاب يغشونه ، فلما مات نبشوه فوجدوا القَرن ووجدوا فيه الكتاب ، فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا ، ومالي لا أوُمن بهذا ؟ إنما عني هذا الكتاب ؟ فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذي القَرن .

قال عبد الله : وإن من بقي منكم سيرى منكراً ، وبحسب أمرى يرى منكراً لا تستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره .

وقال مقاتل بن حيان : إنما يعني بذلك مؤمني أهل الكتاب قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم { فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ } يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع ، ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ، ومنهم طائفة رجعت عن دينها وهم الذين فسّقهم فكفروا بدين عيسى ولم يؤمنوا بمحمد( عليه السلام ) .

وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ففتروا عمّا كانوا فيه ، فقست قلوبهم ، فينبغي للمؤمنين أن يزدادوا إيماناً ويقيناً وإخلاصاً في طول صحبة الكتاب .

أنبأني عبد الله بن حامد ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس الضبّي ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبدالله النيّري ، حدّثنا أبو سعيد الأشج ، حدّثنا أبو خالد الأحمر ، عن ابن عجلان ، عن وائل بن بكر قال : قال عيسى ( عليه السلام ) : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فَتقسوَ قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون ، ولا تنظروا في ذنوب العباد كأنكم أرباب ، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد فإنما الناس رجلان مبتلى ومعافى ، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية " .

أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن إبراهيم بن محمد بن يحيى ، حدّثنا أبو عبد الله المقرىء قال : سمعت أبا الحسن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يقول : سمعت أبا عمار الحسين ابن حريث يقول : سمعت الفضل بن موسى السيناني يقول : كان سبب توبة الفضل بن عياض أنه عشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرقى الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } فرجع القهقرى .

وهو يقول : بلى فلان بلى والله فلان . فأواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة ، وإذا بعضهم يقول لبعض بالفارسية : فضيل بدر أهست در ما راه بُرّذ .

فقال الفضيل في نفسه : الا أراني أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين يخافونني ؟ اللهم إني قد تبت إليك ، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام .

ثم أقبل عليهم فقال لهم بالفارسية : منم فضيل كناه كار أز من ترسيد يدأكنون مترسيد .

قال الفضل بن موسى : ثم خرج فجاور .

وحدّثنا أبو سعد بن أبي عثمان الزاهد ، أخبرنا أبو الفضل أحمد بن أبي عمران بمكة ، حدّثنا أبو يعقوب البزاز ، حدّثنا محمد بن حاتم السمرقندي ، حدّثنا أحمد بن زيد ، حدّثنا حسين ابن الحسن قال : سئل ابن المبارك وأنا حاضر عن أول زهده فقال : إني كنت في بستان ، وأنا شاب مع جماعة من أترابي ، وذلك في وقت الفواكه ، فأكلنا وشربنا وكنت مولعاً بضرب العود فقمت في بعض الليل ، فإذا غصن يتحرك عند رأسي فأخذت العود لأضرب به فإذا بالعود ينطق وهو يقول { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ } قال : فضربت بالعود الأرض فكسرته وصرفت ما عندي من جميع الأمور التي كنت عليها مما شُغلت عن الله ، وجاء التوفيق من الله عزّ وجل فكان ما سُهل لنا من الخير بفضل الله .