فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ( 16 ) }

{ ألم يأن } ألم يحن ويقرب ؟ !

{ تخشع } تلين وتفهم ، وتنقاد وتطيع

{ كالذين أوتوا الكتاب من قبل } كاليهود والنصارى أنزل عليهم كتابان سماويان ، التوراة والإنجيل .

{ الأمد } الأجل ، والوقت الذي يعد غاية .

{ فقست } فصلبت كالحجارة أو أشد صلابة .

{ فاسقون } خارجون على أمر الله وطاعته ، ومرضاته وشريعته .

بعد أن بينت الآية السابقة خسار الكافرين والمنافقين حذرت هذه الآية الكريمة من الغفلة عن الذكر ، والتلهي عن الحق ، والقسوة عن الخير ، والركون إلى المعاصي .

ألم يحن الوقت للمؤمنين أن يستديموا الانقياد التام لأوامر القرآن ونواهيه ، والعكوف على العمل بما فيه ، من غير توان ولا فتور ؟ !

[ { لذكر الله } من إضافة المصدر إلى الفاعل ، أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن { وما نزل من الحق } وأراد أن القرآن جامع للوصفين : الذكر والموعظة ، ولكونه حقا نازلا من السماء ؛ ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي لذكرهم الله والقرآن . . . ]{[6324]} .

أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم{[6325]} على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه : { ألن يأن } الآية .

لكن في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا أربع سنين .

أقول : وما دام الجمهور على أن السورة مدنية ، فيمكن أن تكون هذه الآية قد نزلت أولا بمكة{[6326]} ، وأوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها من آيات هذه السورة الكريمة التي نزلت بعد ذلك ؛ أو يكون قد تكرر نزولها ، فنزلت أولا بمكة ثم نزلت بالمدينة ؛ والله أعلم .

والمعاتب- على ما قاله الزجاج- طائفة من المؤمنين ، وإلا فمنهم من لم يزل خاشعا منذ أسلم إلى أن توفاه الله .

أورد صاحب غرائب القرآن : وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع{[6327]} في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر .

بعد أن عاتب الله تعالى المؤمنين نهاهم{[6328]} أن يتشبهوا باليهود والنصارى الذين حملوا كتبا من كتب ربنا المنزلة ، فلما طال بهم العهد بدلوا كلام الله ونبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فعند ذلك زاغت قلوبهم عن الحق والهدى ، واستحبوا الضلالة والعمى ، فكثر فيهم الخروج على أمر الله ، واتباع الهوى ، وعبادة المال والشهوات والجاه ؛ وصدق الله العليم الحكيم : { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه . . }{[6329]} .

روى ابن أبي حاتم بسنده عن الربيع بن أبي عميلة الفزاري قال : حدثنا عبد الله ابن مسعود حديثا ما سمعت أعجب منه إلا شيئا من كتاب الله ، أو شيئا قاله النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم ، استهوته قلوبهم ، واستحلته ألسنتهم واستلذته ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم ، فقالوا : تعالوا ندع بني إسرائيل إلى كتابنا هذا ، فمن تبعنا عليه تركناه ، ومن كره أن يتابعنا قتلناه ، ففعلوا ذلك ؛ وكان فيهم رجل فقيه ، فلما رأى ما يصنعون عمد إلى ما يعرف من كتاب الله فكتبه في شيء لطيف ، ثم أدرجه فجعله في قرن ثم علق ذلك القرن في عنقه ، فلما أكثروا القتل قال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ! إنكم قد أفشيتم القتل في بني إسرائيل فادعوا فلانا فاعرضوا عليه كتابكم فإنه إن تابعكم فسيتابعكم بقية الناس ، وإن أبى فاقتلوه ؛ فدعوا فلانا –ذلك الفقيه- فقالوا : أتؤمن بما في كتابنا هذا ؟ قال : وما فيه ؟ اعرضوه علي ! فعرضوه عليه إلى آخره ثم قالوا : أتؤمن بهذا ؟ قال : نعم آمنت بما في هذا وأشار بيده إلى القرن فتركوه ؛ فلما مات فتشوه فوجدوه معلقا ذلك القرن فوجدوا فيه ما يعرف من كتاب الله ؛ فقال بعضهم لبعض : يا هؤلاء ما كنا نسمع هذا أصابه فتنة ؛ فافترقت بنو إسرائيل على اثنتين وسبعين ملة ، وخير مللهم ملة أصحاب ذي القرن ؛ قال ابن مسعود : وإنكم أوشك بكم إن بقيتم أو بقي منكم من بقي أن تروا أمورا تنكرونها لا تستطيعون لها غيرا ، فبحسب المرء منكم أن يعلم الله من قلبه أنه لها كاره .

وروى أبو جعفر الطبري بسنده عن إبراهيم قال : جاء عتريس بن عرقوب إلى ابن مسعود فقال : يا أبا عبد الله ! هلك من لم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر ؛ فقال عبد الله : هلك من لم يعرف قلبه معروفا ولم ينكر قلبه منكرا ؛ ثم ساق نحو ما ذكرناه .


[6324]:مما نقل النيسابوري.
[6325]:- العتاب: مخاطبة الإدلال، ومذاكرة الموجدة، كذا نقله القرطبي عن الخليل جـ 17- ص 248.
[6326]:- استنادا إلى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم، وأوردناه، إذ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من السابقين إلى الإسلام، فإذا كانت الآية قد نزلت بعد إسلامه بأربع سنين فهذا يعني أنها نزلت قبل الهجرة إلى المدينة.
[6327]:- نقل الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير: ذكر لنا أن شداد بن أوس كان يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن أول ما يرفع من الناس الخشوع" كما أورد القرطبي في تفسير جـ17 ص 249 وما بعدها: ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم "إن الله يستبطئكم بالخشوع" فقالوا عند ذلك: خشعنا!..وذكر ابن المبارك: أخبرنا مالك بن أنس قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه.. لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون... اهـ.
[6328]:- {ولا} نفي في معنى النهي
[6329]:- سورة المائدة. من الآية 13.