السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

واختلف في سبب نزول قوله تعالى : { ألم يأن } أي : يحن ويدرك وينتهي إلى الغاية { للذين آمنوا } أي : أقرّوا بالإيمان { أن تخشع } أي : تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن { قلوبهم لذكر الله } أي : الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً فيعرض عن الفاني ويقبل على الباقي ولا يطلب لداء دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن ، فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، وعن الحسن : أما والله لقد استبطأهم وهم يقرؤون من القرآن أقل ما تقرؤون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق ، وقيل : كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت ؛ وعن أبي بكر رضي الله عنه : أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة فبكوا بكاء شديداً فنظر إليهم وقال : هكذا كنا حتى قست القلوب وقال الشاعر :

ألم يأن لي يا قلب أن نترك الجهلا *** وأن يحدث الشيب المنير لنا عقلا

وقوله تعالى : { وما نزل من الحق } أي : القرآن عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر لأن القرآن جامع للأمرين للذكر والموعظة أو أنه حق نازل من السماوات ؛ ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله تعالى ، وقرأ نافع وحفص بتخفيف الزاي والباقون بالتشديد وقوله تعالى : { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } أي : قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى معطوف على تخشع والمراد : النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكى عنهم بقوله تعالى : { فطال عليهم الأمد } أي : الأجل لطول أعمارهم أو آمالهم أو ما بينهم وبين أنبيائهم { فقست } أي : بسبب الطول { قلوبهم } أي : صلبت واعوجت بحيث لا تنفعل بالطاعات والخير فكانوا كل حين في تعنت جديد على أنبيائهم عليهم السلام يسألونهم المقترحات ، وأما بعد أنبيائهم فابعدوا في القساوة فمالوا إلى دار الكدر وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات ؛ قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل باتباع الشهوة فإن الشهوة والصفوة لا يجتمعان ؛ وعن أبي موسى الأشعري : أنه بعث إلى قراء البصرة فدخل عليه ثلاث مئة رجل قد قرؤوا القرآن فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاقرؤه ولا تطيلوا عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم { وكثير منهم } أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأسا فهم { فاسقون } أي : عريقون في صفة الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي حدها لهم الكتاب حتى تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام .