معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

قوله تعالى : { ثم قست قلوبكم } . أي يبست وجفت ، جفاف القلب : خروج الرحمة واللين عنه ، وقيل : غلظت ، وقيل : اسودت .

قوله تعالى : { من بعد ذلك } . من بعد ظهور الدلالات . قال الكلبي : قالوا بعد ذلك : نحن لم نقتله ، فلم يكونوا قط أعمى قلباً ولا أشد تكذيباً لنبيهم منهم عند ذلك .

قوله تعالى : { فهي } . في الغلظة والشدة .

قوله تعالى : { كالحجارة أو أشد قسوة } . قيل : أو بمعنى بل . أو بمعنى الواو ( مائة ألف أو يزيدون ) أي : بل يزيدون أو ويزيدون ، وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة ، لأن الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار ، وقد لان لداود عليه السلام ، والحجارة لا تلين قط ، ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال :

قوله تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } . قيل : أراد به جميع الحجارة ، وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط .

قوله تعالى : { وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } . أراد به عيوناً دون الأنهار .

قوله تعالى : { وإن منها لما يهبط } . ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله .

قوله تعالى : { من خشية الله } . وقلوبكم لا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود . فإن قيل : جماد لا يفهم ، فكيف يخشى قيل : الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه . ومذهب أهل السنة والجماعة أن لله تعالى خلق علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء ، لا يقف عليه غير الله ، فلها صلاة وتسبيح وخشية كما قال جل ذكره : ( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) وقال ( والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه ) وقال : ( ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر ) الآية ، فيجبعلى المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله تعالى سبحانه وتعالى .

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلبونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ علي فيعاقبني الله بذلك ، فقال له جبل حراء : إلي يا رسول الله .

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، ثنا السدي أبو الحسين محمد ابن حسن العلوي ، أنا أحمد بن محمد بن عبد الوهاب النيسابوري ، أنا محمد ابن إسماعيل الصائغ ، أنا يحيى بن أبي بكر ، أنا إبراهيم بن طهمان ، عن سماك ابن حرب . عن جابر بن سمرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن " هذا حديث صحيح ، أخرجه مسلم ، عن أبي بكر ابن أبي شيبة ، عن يحيى بن أبي بكر . وصح عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلع له أحد فقال : " هذا جبل يحبنا و نحبه " .

وروي عن أبي هريرة يقول : " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح ثم أقبل على الناس بوجهه وقال : بينما رجل يسوق بقرة إذ عيي ، فركبها فضربها ، فقالت : إنا لم نخلق لهذا ، إنما خلقنا لحراثة الأرض فقال الناس : سبحان الله بقرة تتكلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإني أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .

وقال : " بينما رجل في غنم له إذ عدا الذئب على شاة منها ، فأدركها صاحبها فاستنفذها ، فقال الذئب : فمن لها يوم السبع أي يوم القيامة ، يوم لا راعي لها غيري فقال الناس : سبحان الله ذئب يتكلم ! فقال : أومن به أنا وأبو بكر وعمر وما هما ثم " .

وصح عن أبي هريرة ، قال : " كان رسول صلى الله عليه وسلم على حراء وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير ، فتحركت الصخرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم اهدأ . أي : اسكن . فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد " صحيح أخرجه مسلم . أخبرنا عبد الله الصالحي ، أنا أبو سعيد يحيى بن أحمد بن علي الصانع ، أنا أبو الحسن علي بن إسحاق بن هشام الرازي ، أنا محمد بن أيوب بن ضريس وهو يجلي الرازي ، أنا محمد بن الصباح ، عن الوليد ابن أبي ثور ، عن السدي ، عن عبادة بن أبي يزيد ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فخرجنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر ، فلم يمر بشجرة ولا جبل إلا قال السلام عليك يا رسول الله " .

أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا عبد المجيد بن عبد العزيز ، عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير ، أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول : " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد ، فلما صنع له المنبر فاستوى عليه ، اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة ، حتى سمعها أهل المسجد ، حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكنت " .

قال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى الأسفل إلا من خشية الله ، ويشهد لما قلنا قوله تعالى : ( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ) .

قوله تعالى : { وما الله بغافل } . بساه .

قوله تعالى : { عما تعملون } . وعيد وتهديد ، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون ، بل يجازيكم به ، قرأ ابن كثير يعملون بالياء والآخرون بالتاء .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

{ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي : اشتدت وغلظت ، فلم تؤثر فيها الموعظة ، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي : من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات ، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم ، لأن ما شاهدتم ، مما يوجب رقة القلب وانقياده ، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد ، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ، ذاب بخلاف الأحجار .

وقوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي : إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار ، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم ، فقال : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور فضلت قلوبكم . ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال : { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها ، وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه .

واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله ، قد أكثروا في حشو تفاسيرهم من قصص بني إسرائيل ، ونزلوا عليها الآيات القرآنية ، وجعلوها تفسيرا لكتاب الله ، محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم : " حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "

والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة ، ولا منزلة على كتاب الله ، فإنه لا يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن مرتبتها كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم " فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها ، وكان من المعلوم بالضرورة من دين الإسلام أن القرآن يجب الإيمان به والقطع بألفاظه ومعانيه ، فلا يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ، التي يغلب على الظن كذبها أو كذب أكثرها ، معاني لكتاب الله ، مقطوعا بها ولا يستريب بهذا أحد ، ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل ، والله الموفق .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ( 74 )

{ قست } أي صلبت وجفت ، وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات الله تعالى ، وقال ابن عباس : المراد قلوب ورثة القتيل ، لأنهم حين حيي قال : إنهم قتلوه وعاد إلى حال موته موته أنكروا قتله ، وقالوا : كذب بعدما رأوا هذه الآية العظمى ، لكن نفذ حكم الله تعالى بقتلهم ، قال عبيدة السلماني : ولم يرث قاتل من حينئذ( {[804]} ) .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وبمثله جاء شرعنا( {[805]} ) ، وحكى مالك رحمه الله في الموطأ ، أن قصة أحيحة بن الجلاح في عمه هي التي كانت سبباً لأن لا يرث قاتل : ثم ثبت ذلك الإسلام ، كما ثبت كثيراً من نوازل الجاهلية( {[806]} ) ، وقال أبو العالية وقتادة وغيرهما : إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك .

وقوله تعالى : { فهي كالحجارة } الآية ، الكاف في موضع رفع خبر ل «هي » ، تقديره : فهي مثل الحجارة { أو أشد } مرتفع بالعطف على الكاف ، { أو } على خبر ابتداء بتقدير تكرار هي ، و { قسوة } نصب على التمييز ، والعرف في { أو } أنها للشك ، وذلك لا يصح في هذه الآية( {[807]} ) ، واختلف في معنى { أو } هنا ، فقالت طائفة ، هي بمعنى الواو ، كما قال تعالى : { آثماً أو كفوراً }( {[808]} ) [ الإنسان : 24 ] أي وكفوراً ، وكما قال الشاعر [ جرير ] : [ البسيط ]

نال الخلافة أو كانَتْ له قدراً . . . كما أتى ربَّهُ موسى على قَدَر( {[809]} )

أي وكانت له . وقالت طائفة هي بمعنى بل ، كقوله تعالى : { إلى مائة ألف أو يزيدون }( {[810]} ) [ الصافات : 147 ] المعنى بل يزيدون ، وقالت طائفة : معناها التخيير ، أي : شبهوها بالحجارة تصيبوا ، أو بأشد من الحجارة تصيبوا( {[811]} ) ، وقالت فرقة : هي على بابها في الشك . ومعناه : عندكم أيها المخاطبون وفي نظركم ، أن لو شاهدتم قسوتها لشككتم أهي كالحجارة أو أشد من الحجارة . وقالت فرقة : هي على جهة الإبهام( {[812]} ) على المخاطب ، ومنه قول أبي الأسود( {[813]} ) الدؤلي :

أحب محمّداً حباً شديداً . . . وعباساً وحمزة أو عليّا

ولم يشك أبو الأسود ، وإنما قصد الإبهام على السامع ، وقد عورض أبو الأسود في هذا ، فاحتجّ بقول الله تعالى : { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين }( {[814]} ) [ سبأ : 24 ] ، وهذه الآية مفارقة لبيت أبي الأسود ، ولا يتم معنى الآية إلا ب «أو » ، وقالت فرقة : إنما أراد الله تعالى أن فيهم من قلبه كالحجر ، وفيهم من قلبه أشد من الحجر( {[815]} ) ، فالمعنى فهي فرقتان كالحجارة أو أشد ، ومثل هذا قولك : أطعمتك الحلو أو الحامض ، تريد أنه لم يخرج ما أطعمته عن هذين ، وقالت فرقة : إنما أراد عز وجل أنها كانت كالحجارة يترجى لها الرجوع والإنابة ، كما تتفجر الأنهار ويخرج الماء من الحجارة ، ثم زادت قلوبهم بعد ذلك قسوة بأن صارت في حد من لا ترجى إنابته ، فصارت أشد من الحجارة ، فلم تخل أن كانت كالحجارة طوراً أو أشد طوراً ، وقرأ أبو حيوة : «قساوة » ، والمعنى واحد .

وقوله تعالى : { وإن من الحجارة } الآية ، معذرة للحجارة وتفضيل لها على قلوبهم في معنى قلة القسوة ، وقال قتادة : عذر الله تعالى الحجارة ولم يعذر شقيّ بني آدم ، وقرأ قتادة : «وإنْ » مخففة من الثقيلة ، وكذلك في الثانية والثالثة ، وفرق بينها وبين النافية لام التأكيد ، في { لما } ، وما في موضع نصب اسم ل { إن } ، ودخلت اللام على اسم { إن } لمّا حال بينهما المجرور ، ولو اتصل الاسم ب { إن } لم يصح دخول اللام لثقل اجتماع تأكيدين ، وقرأ مالك بن دينار( {[816]} ) : «ينفجِر » بالنون وياء من تحت قبلها وكسر الجيم ، ووحد الضمير في { منه } حملاً على لفظ «ما » ، وقرأ أبي بن كعب والضحاك «منها الأنهار » حملاً على الحجارة ، و { الأنهار } جمع نهر( {[817]} ) وهو ما كثر ماؤه جرياً من الأخاديد ، وقرأ طلحة بن مصرف : «لمّا » بتشديد الميم في الموضعين ، وهي قراءة غير متجهة ، { ويشقق } أصله يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وهذه( {[818]} ) عبارة عن العيون التي لم تعظم حتى تكون أنهاراً ، أو عن الحجارة التي تشقق وإن لم يجر ماء منسفح ، ( {[819]} ) وقرأ ابن مصرف ينشقق بالنون ، وقيل في هبوط الحجارة( {[820]} ) تفيؤ ظلالها ، وقيل المراد : الجبل( {[821]} ) الذي جعله الله دكاً ، وقيل : إن الله تعالى يخلق في بعض الأحجار خشية وحياة يهبطها من علو تواضعاً ، ونظير هذه الحياة حياة الحجر المسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحياة الجذع الذي أَنَّ لفقد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل لفظة الهبوط مجاز( {[822]} ) ، وذلك أن الحجارة -لما كانت القلوب تعتبر بخلقها ويخشع بعض مناظرها ، أضيف تواضع الناظر إليها ، كما قالت العرب : ناقة تاجرة أي : تبعث من يراها على شرائها( {[823]} ) ، وقال مجاهد ، ما تدرى حجر من رأس جبل ولا تفجر نهر من حجر ولا خرج ماء منه إلا { من خشية الله } ، نزل بذلك القرآن ، وقال مثله ابن جريج ، وحكى الطبري عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة( {[824]} ) كما استعيرت الإرادة للجدار في قوله تعالى { يريد أن ينقض }( {[825]} ) [ الكهف : 77 ] ، وكما قال زيد الخيل : [ الطويل ]

بِجمعٍ تضِل البُلْقُ في حَجَراتِهِ . . . ترى الأكمَ فيه سجداً للحوافرِ( {[826]} )

وكما قال جرير :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والجبال الخشع( {[827]} )

أي من رأى الحجر( {[828]} ) هابطاً تخيل فيه الخشية .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا قول ضعيف : لأن براعة معنى الآية تختل به ، بل القوي أن الله تعالى يخلق للحجارة قدراً ما من الإدراك تقع به الخشية والحركة( {[829]} ) ، و { بغافل } في موضع نصب خبر { ما } ، لأنها الحجازية ، يقوي ذلك دخول الباء في الخبر ، وإن كانت الباء قد تجيء شاذة مع التميمية ، وقرأ ابن كثير «يعملون » بالياء ، والمخاطبة على هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم .


[804]:- أي القاتل عمدا، والآية لا تدل على حرمان القاتل من الإرث، وإنما تدل على ذلك القصة التي جاء في آخرها فما ورث قاتل بعدها ممن قتله، ولذلك اعتمد الإمام مالك في الموطأ قضية أحيحة بن الجلاح كما قال القاضي أبو محمد رحمه الله.
[805]:- وهذا دليل على أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ.
[806]:- نص الموطأ: "وحدثني مالك، عن يحيى بن سعيد، وعن عروة بن الزبير أن رجلا من الأنصار يقال له أحيحة بن الجلاح، كان له عم صغير هو أصغر من أحيحة، وكان عند أخواله، فأخذه أحيحة فقتله، فقال أخواله: كنا أهل ثَمِه ورمِه، حتى إذا استوى على عممه، غلبنا حق امرئ في عمه. قال عروة فلذلك لا يرث قاتل من قتل- قال مالك: الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن قاتل العمد لا يرث من دية من قتل شيئا، ولا من ماله، ولا يحجب أحدا وقع له ميراث، وأن الذي يقتل خطأ لا يرث من الدية شيئا، وقد اختلف في أن يرث من ماله لأنه لا يتهم على أنه قتله ليرثه، وليأخذ ماله، فأحب إلي أن يرث من ماله ولا يرث من ديته". انتهى.
[807]:- أي إجماعا، لأن الشك خلاف اليقين، وهو على الله محال.
[808]:- من الآية 24 من سورة الإنسان.
[809]:- هو جرير بن عطية يمدح عمر بن عبد العزيز.
[810]:- من الآية 147 من سورة الصافات.
[811]:- أي من دون جمع بينهما، بخلاف الإباحة فلك أن تجمع بينهما نحو قم أو اقعد.
[812]:- أي التشكيك، والفرق بين الشك والتشكيك أن المتكلم في الشك لا يعرف التعيين وفي التشكيك يعرفه، ولكن أبهمه على السامع كقوله تعالى: (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).
[813]:- اسمه ظالم بن عمرو البصري وهو من أعيان التابعين، ويعتبر من الشعراء والمحدثين والنحويين، وهو أول من تكلم في النحو. وبعد البيت المذكور: فإن يك حبهم رشدا أصبه وليس بمخطئي إن كان غيا توفي سنة 96هـ.
[814]:- من الآية 24 من سورة سبأ.
[815]:- يعني أن منهم من قلبه كالحجارة، ومنهم من قلبه أقسى من الحجارة. فهي للتفصيل كما هي في قوله (أطعمتك الحلو أو الحامض) أي مرة أطعمتك الحلو ومرة الحامض، بحيث لا يخرج الإطعام عنهما، وما نسبه المؤلف رحمه الله إلى الفرقة بعد يقرب من هذا. والله أعلم.
[816]:- أبو مالك يحيى بن دينار البصري، من العلماء الزاهدين، عرف بالورع، وكان يكتب المصاحف بالأجر- توفي سنة (131)هـ.
[817]:- بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح.
[818]:- يعني أن قوله تعالى: [وإن منها لما يشقق]، هي في العيون التي تكون دون الأنهار، أو في الحجارة التي تشقق عن ماء يسير.
[819]:- أي كثير، يقال انفسح المراح: كثرت إبله، وفي بعض النسخ منسفح، والماء المنسفح هو المراق ولكنه يكون قليلا.
[820]:- محصل ما أشار إليه رحمه الله في تأويل الهبوط من خشية الله خمسة أقوال: الأول: معنى هبوطها: تفيؤ ظلالها أي تقلبها من مكان إلى مكان، والثاني: يعني هبوطها: اندكاك الجبل الذي تجلى له ربه في قضية موسى عليه السلام، والثالث: أن الله سبحانه يخلق في بعض الأحجار حياة وخشية يهبط بها من علو تواضعا، كما قال الإمام مجاهد: ما تردى حجر من رأس جبل، ولا تفجر نهر من حجر، ولا نزل ماء منه إلى من خشية الله، وقد قوى ابن عطية رحمه الله هذا القول، الرابع: أن الهبوط مجاز عن تواضع الناظر إلى الحجارة، والخامس: أن خشية الحجارة مستعارة ومتخيلة. والله أعلم.
[821]:- الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام، إذ جعله دكا وخر موسى صعقا.
[822]:- أي عن التواضع.
[823]:- أي لما فيها من النجابة والفراهة فهي نافقة وداعية إلى الإقبال على شرائها.
[824]:- أي متخيلة بمعنى أن من نظر إلى الحجر هابطا تخيل فيه خشية الله.
[825]:- أي كأنه يريد، لأنه ظهر فيه من الميل ما لو ظهر من حي لدل على إٍرادته الانقضاض.
[826]:- زيد الخيل: هو زيد بن مهلهل الطائي، يكنى أبا مكنف، قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سنة 9هـ وأسلم، وسماه زيد الخير، جعل ما ظهر من تأثر الأكم بالحوافر سجودا لها، يعني أنه تخيل ذلك، والخيال باب واسع، وقوله: (بجمع) يتعلق بما قبله وهو: بني عامر، هل تعرفون إذا غدا أبو مكنف قد شد عقد الدوابر والحجرات جمع حجرة: النواحي، ويقال: بلق الفرس: كان فيه سواد وبياض.
[827]:- نص البيت بتمامه: لما أتى الزبير تواضعت سور المدينة والجبال الخشع وهو لجرير بن عطية يصف مقتل الزبير بن العوام حين انصرف من وقعة الجمل وقتل في الطريق، والمدينة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وتواضعت هي وجبالها، وخشعت حزنا لموته رضي الله عنه، أي كأنها كذلك- وإنما أنَّث الفعل في البيت لأن المضاف إلى المؤنث مؤنث.
[828]:- يعني أن الجدار المائل تخيل فيه الإرادة.
[829]:- أي قدرا من الإدراك والمعرفة لائقا بحالها وطبيعتها، فإن المعرفة أنواع، ومعرفة الإنسان غير معرفة الحيوان، ومعرفة الحيوان غير معرفة الجمادات، وكل ذلك بخلق الله تعالى فيها قوة تسمى معرفة. والله أعلم.