فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

والقسوة : الصلابة واليبس ، وهي : عبارة عن خلوّها من الإنابة ، والإذعان لآيات الله ، مع وجود ما يقتضى خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل ، وتكلمه ، وتعيينه لقاتله ، والإشارة بقوله : { مِن بَعْدِ ذلك } إلى ما تقدم من الآيات الموجبة لِلين القلوب ورقتها .

قيل : «أو » في قوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بمعنى الواو كما في قوله تعالى : { آثماً أَوْ كَفُوراً } [ الأَنسان : 24 ] وقيل : هي بمعنى بل ، وعلى أن «أو » على أصلها ، أو بمعنى الواو ، فالعطف على قوله : { كالحجارة } أي : هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة منها ، فشبهوها بأيّ الأمرين شئتم ، فإنكم مصيبون في هذا التشبيه ، وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع «أو » ههنا مع كونها للترديد ، أي : لا يليق لعلام الغيوب بثمانية أوجه ، وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشدّ مع كونه يصح أن يقال : وأقسى من الحجارة ، لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، كما قاله في الكشاف .

وقرأ الأعمش : «أو أشد » بنصب الدال ، وكأنه عطفه على الحجارة ، فيكون أشدّ مجروراً بالفتحة . وقوله : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة } إلى آخره ، قال في الكشاف إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة ، وتقرير لقوله : { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } . انتهى . وفيه أن مجيء البيان بالواو غير مألوف ، ولا معروف ، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلاً أو حالاً . التفجر : التفتح ، وقد سبق تفسيره . وأصل { يَشَّقَّقُ } يتشقق أدغمت التاء في الشين ، وقد قرأ الأعمش : «يتشقق » على الأصل . وقرأ ابن مصرف " ينشقّ " بالنون . والشق : واحد الشقوق ، وهو : يكون بالطول ، أو بالعرض ، بخلاف الانفجار ، فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق . والمراد : أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار ، والانشقاق ، ومن الحجارة ما يهبط أي : ينحطّ من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله ، وتحل به . وقيل : إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها ، والتواضع الكائن فيها ، انقياداً لله عزّ وجلّ ، فهو مثل قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ لرَأَيْتَهُ خاشعا متَصَدّعاً منْ خَشْيَةِ الله } [ الحشر : 21 ] وقد حكى ابن جرير عن فرقة أن الخشية للحجارة مستعارة ، كما استعيرت الإرادة للجدار ، وكما قال الشاعر :

لَمَا أتَى خَبَرُ الزُّبير تواضَعَتْ *** سُورُ المَدينَة والجِبَالُ الخُشَّعُ

وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله : { وَإِنَّ مِنْهَا } راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة ، وهو فاسد ، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة ، وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق ، والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة ، التي هي أشدّ الأجسام صلابة ، وأعظمها صلادة ، فإنها ترجع إلى نوع من اللين ، وهي تفجرها بالماء ، وتشققها عنه ، وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع ، والانقياد ، بخلاف تلك القلوب ، وفي قوله : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } من التهديد ، وتشديد الوعيد ما لا يخفى ، فإن الله عز وجل إذا كان عالماً بما يعملونه مطلعاً عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد .

/خ74