التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

ثم بين القرآن الكريم ، بعد ذلك أن هذه المعجزات الباهرة التي تزلزل المشاعر ، وتهز القلوب ، وتبعث في النفوس الإِيمان ، لم تؤثر في قلوب بني إسرائيل الصلدة لأنه قد طرأ عليهم بعد رؤيتها ما أزال آثارها من قلوبهم ، ومحا الاعتبار بها من عقولهم ، فقال تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } .

والمعنى : ثم صلبت قلوبكم - يا بني إسرائيل - وغلظت من بعد أن رأيت ما رأيتم من معجزات منها إحياء القتيل أمام عينكم ، فهي كالحجارة في صلابتها وببوستها ، بل هي أشد صلابة منها ، لأن من الحجرة ما فيه ثقوب متعددة ، وخروق متسعة ، فتتدفق منه مياه الأنهار التي تعود بالمنافع على المخلوقات ، ولأن من بينها ما يتصدق تصدعاً قليلاً فيخرج منه ماء اليعون والآبار ولأن منها ما يتردى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته ، أما أنتم - يا بني إسرائيل - فإن قلوبكم لا تتأثر بالمواعظ ولا تنقاد للخير ، ولا تفعل ما تؤمر به مهما تعاقبت عليكم النعم والنقم والآيات ، وما الله بغافل عما تعملون .

وقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بيان لما طرأ على قلوب بني إسرائيل من بعد عن الاعتبار ، وعدم تأثر بالعظات وإعراض عن الإِنابة والإِذعان لآيات الله وتحلل من المواثيق التي أقروا بها على أنفسهم وجيء ( بثم ) التي هي للترتيب والتراخي . لاستبعاد استيلاء الغلظة والقسوة على قلوبهم بعد أن رأوا الكثير من المعجزات ، فكأنه - سبحانه - يقول لهم - بعد أن ساق لهم قصة البقرة وما ترتب عليها من منافع وعبر : ومع ذلك كله لم تلن قلوبكم - يا بني إسرائيل - ولم تفدكم المعجزات : فقست قلوبكم وكان من المستبعد أن تقسوا .

وقوله تعالى : { بَعْدِ ذلك } فيه زيادة تعجيب من إحاطة القساوة بقلوبهم ، بعد توالى النعم ، وتكاثر المعجزات التي أشار القرآن الكريم إلى بعضها في الآيات السابقة .

واسم الإِشارة ( ذلك ) مشار به إلى إحياء القتيل بعد ضربه بجزء من البقرة أو إلى جميع النعم والمعجزات الواردة في الآيات السابقة .

و ( أو ) في قوله تعالى : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } قيل : للتنويع ، فإن قلوبهم متفاوتة في القسوة ، فمنها ما هو قاس كالحجارة ، ومنها ما هو أشد منها قسوة ، أي : فبعض قلوبكم كالحجارة في صلابتها وبعضها أشد من الحجارة في صلابتها .

وقيل : للتشكيك بالنسبة للمخاطبين ، لا إلى المتكلم ، كأن يقول أحد الناس لآخر ، إن هذه القلوب قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها .

والأظهر أن تكون للإِضراب على طريقة المبالغة والمعنى : ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة بل هي أشد منها قسوة ، إذ لا شعور فيها يأتي بخير ، والحجارة ليست كذلك .

وشبه - سبحانه - قلوبهم بالحجارة في القسوة ، لأن صلابة الحجرة أعرف للناس وأشهر ، حيث إنها محسوسة لديهم ومتعارفة بينهم ولذا جاء التشبيه بها .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت لم قيل أشد قسوة ، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب ؟ قلت : لكونه أبين وأدل على فرط القسوة ، ووجه آخر ، وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة . كأنه قيل اشتدت قسوة الحجارة وقلوبهم أشد قسوة " .

وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } بيان لفضل الحجارة على قلوبهم القاسية ، قصد به إظهار زيادة قسوة قلوبهم عن الحجارة ، لأن هذا الأمر لغرابته يحتاج إلى بيان سببه .

فكأنه - سبحانه - يقول لهم . إن هذه الحجارة على صلابتها ويبوستها منها ما تحدث فيه المياه خروقاً واسعة تتدفق منها الأنهار الجارية النافعة ، ومنها ما تحدث فيه المياه شقوقاً مختلفة تنجم عنها العيون النابعة ، والآبار الجوفية المفيدة . ومنهخا ما ينقاد لأوامر الله عن طواعية وامتقال . أما قلوبكم أنتم فلا يصدر عنها نفع ، ولا تتأثر بالعظات والعبر ، ولا تنقاد للحكم التي من شأنها هداية النفوس .

وقوله تعالى : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد وتخويف ، حيث إنه - سبحانه - سيحاسبهم على أعمالهم ، وسيذيقهم ما يستحقونه من عقاب جزاء جحودهم لنعمه ، وعصيانهم لأمره .

وبذلك تكون الآية الكريمة قد وصفت بني إسرائيل بما هم أهله . من قساوة القلب وانطماس البصيرة ، وعدم التأثر بالعظات مهما كثرت . وبالىيات مهما توالت .

/خ74