بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك } ، قال الزجاج : تأويل { قست } في اللغة أي غلظت ويبست ، فتأويل القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع . وقوله : { مِن بَعْدِ ذلك } ، قد قيل : من بعد إحياء الميت ، ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت ، نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك . وقال بعض الحكماء : معنى قوله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } ، أي يبست . ويبس القلب أن ييبس عن ماءين ؛ أحدهما : ماء خشية الله والثاني : ماء شفقة الخلق .

ثم قال تعالى : { فَهِيَ كالحجارة } ، وكل قلب لا يكون فيه خشية الله تعالى فهو كالحجارة .

{ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } ، قال بعضهم : بل أشد قسوة ؛ مثل قوله تعالى : { وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] بمعنى بل يزيدون ، وكقوله : { وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } [ النحل : 77 ] ، أي : بل هو أقرب ، وكقوله { قاب قوسين أو أدنى } . أي : بل هو أدنى . وقال بعضهم : معناه وأشد قسوة الألف زائدة . وقال الزجاج : { أو } للتخيير يعني إن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السماء فِيهِ ظلمات وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أصابعهم فى آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت والله مُحِيطٌ بالكافرين } [ البقرة : 19 ] .

ثم قال تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار } فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم ، حين لم تلن بذكر الله ولا بالموعظة فقال : { وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار } ، يعني الحجر الذي منه العيون في الجبل . ويقال أراد به حجر موسى عليه السلام الذي كان يخرج منه العيون . { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ } ، أي من الحجارة ما يتصدع { فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله } . ويقال : كل حجر يتردى من رأس الجبل إلى الأرض فهو من خشية الله . ويقال : أراد به الجبل الذي صار دكاً حين كلم الله موسى عليه السلام . ويقال : هو جميع الجبال ، وما يزول الحجر من مكانه إلا من خشية الله تعالى . وقال بعضهم : هو على وجه المثال ، يعني لو كان له عقل لهبط من خشية الله تعالى ، وهو قول المعتزلة وهو خلاف أقاويل أهل التفسير .

قوله تعالى : { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، قرأ ابن كثير وابن عامر { يَعْمَلُونَ } بالياء والباقون بالتاء . واختلفوا في مواضع أخرى . قرأ حمزة والكسائي في كل موضع { وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } بالياء . وفي كل موضع { وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ } [ هود : 123 ] بالتاء . واختلفت الروايات عن غيرهما .

وهذا كلام التهديد ، يعني أن الله تعالى يجازيكم بما تعملون فيحذركم بذلك .