السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{ثُمَّ قَسَتۡ قُلُوبُكُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَٱلۡحِجَارَةِ أَوۡ أَشَدُّ قَسۡوَةٗۚ وَإِنَّ مِنَ ٱلۡحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنۡهُ ٱلۡأَنۡهَٰرُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخۡرُجُ مِنۡهُ ٱلۡمَآءُۚ وَإِنَّ مِنۡهَا لَمَا يَهۡبِطُ مِنۡ خَشۡيَةِ ٱللَّهِۗ وَمَا ٱللَّهُ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ} (74)

{ ثم قست قلوبكم } أيها اليهود أي : ضلت عن قبول الحق لأن القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة كما في الحجر وقساوة القلب مثل في بعده عن الاعتبار ، وثم لاستبعاد القسوة عن الأحياء لا للتراخي في الزمان بل للاستبعاد مجاز القرينة ما قبلها بمعنى أنه يبعد من العاقل قسوة القلب بعد ظهور تلك الآية العظيمة { من بعد ذلك } المذكور من إحياء القتيل وما قبله من الآيات فإن ذلك مما يوجب لين القلب { فهي كالحجارة } في قسوتها ، قرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء ، والباقون بكسرها { أو أشدّ قسوة } من الحجارة ، وقيل : أو بمعنى الواو كقوله تعالى : { مائة ألف أو يزيدون } ( الصافات ، 147 ) وإنما لم يشبهها بالحديد مع أنه أصلب من الحجارة لأنّ الحديد قابل للين فإنه يلين بالنار وقد لان لداود عليه الصلاة والسلام والحجارة ، لا تلين قط ثم فضل الحجارة على القلب القاسي فقال : { وإنّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار } أي : من بعض الحجارة وقيل : أراد به الحجر الذي كان يضرب عليه موسى للأسباط { فإنّ منها لما يشقق } فيه إدغام التاء في الأصل في الشين { فيخرج منه الماء } أي : عيوناً دون الأنهار { وإنّ منها لما يهبط } أن ينزل من أعلى الجبل إلى أسفله { من خشية الله } وقلوبكم لا تتأثر ولا تلين ولا تخشع يا معشر اليهود .

فإن قيل : الحجر جماد لا يفهم فكيف يخشى ؟ أجيب : بأنّ الله يفهمه ويلهمه فيخشى بإلهامه ، قال البغويّ : ومذهب أهل السنة أنّ لله تعالى علماً في الجمادات وسائر الحيوانات سوى العقلاء لا يقف عليه غيره فلها صلاة وتسبيح كما قال جلّ ذكره : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ( الإسراء ، 40 ) وقال تعالى : { والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه } ( النور ، 41 ) ( الحج ، 18 ) وقال تعالى : { ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمس والقمر } ( الحج ، 18 ) الآية فيجب على المرء الإيمان به ويكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى .

روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان على ثبير والكفار يطلعونه فقال الجبل : انزل عني فإني أخاف أن تؤخذ عليّ فيعاقبني الله بذلك ، فقال له جبل حرا : إليّ إليّ يا رسول الله .

وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم عليّ قبل أن أبعث وإني لأعرفه الآن ) .

وروي عن عليّ أنه قال : ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فرحنا في نواحيها خارجاً من مكة بين الجبال والشجر فلم يمرّ بشجر ولا جبل إلا قال : السلام عليك يا رسول الله ) .

وروي عن جابر أنه قال : ( كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا خطب استند إلى جذع نخلة من سواري المسجد فلما صنع له المنبر فاستوى عليه اضطربت تلك السارية وحنت كحنين الناقة حتى سمعها أهل المسجد حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقها فسكتت ، وقال مجاهد : لا ينزل حجر من أعلى إلى أسفل إلا من خشية الله ويشهد لذلك قوله تعالى : { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله } ( الحشر ، 21 ) { وما الله بغافل } أي : بساه { عما تعملون } وعيد وتهديد ، وقيل : بتارك عقوبة ما تعملون بل يجازيكم به ، وقرأ ابن كثير بالياء على الغيبة ، والباقون بالتاء على الخطاب .