جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني بذلك كفار بني إسرائيل، وهم فيما ذكر بنو أخي المقتول، فقال لهم:"ثم قست قلوبكم": أي جفت وغلظت وعست...يقال: قسا وعسا وعتا بمعنى واحد، وذلك إذا جفا وغلظ وصلب.
"مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ": من بعد أن أحيا المقتول لهم الذي ادّارءوا في قتله. فأخبرهم بقاتله وما السبب الذي من أجله قتله، كما قد وصفنا قبل على ما جاءت الاَثار والأخبار، وفصل الله تعالى ذكره بخبره بين المحقّ منهم والمبطل. وكانت قساوة قلوبهم التي وصفهم الله بها أنهم فيما بلغنا أنكروا أن يكونوا هم قتلوا القتيل الذي أحياه الله، فأخبر بني إسرائيل بأنهم كانوا قتلته بعد إخباره إياهم بذلك، وبعد ميتته الثانية.
"فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً": "فَهِيَ":قلوبكم؛ يقول: ثم صلبت قلوبكم بعد إذ رأيتم الحقّ فتبينتموه وعرفتموه عن الخضوع له والإذعان لواجب حق الله عليكم، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدّة، أو أشد صلابة: يعني قلوبكم عن الإذعان لواجب حقّ الله عليهم، والإقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة.
فإن سأل سائل فقال: وما وجه قوله: "فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً "و (أو) عند أهل العربية إنما تأتي في الكلام لمعنى الشك، والله تعالى جل ذكره غير جائز في خبره الشك؟ قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي توهمته من أنه شك من الله جل ذكره فيما أخبر عنه، ولكنه خبر منه عن قلوبهم القاسية أنها عند عباده الذين هم أصحابها الذين كذّبوا بالحقّ بعد ما رأوا العظيم من آيات الله، كالحجارة قسوة أو أشدّ من الحجارة عندهم وعند من عرف شأنهم، وقد قال في ذلك جماعة من أهل العربية أقوالاً:
فقال بعضهم: إنما أراد الله جل ثناؤه بقوله: "فَهِيَ كالحِجارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً" وما أشبه ذلك من الأخبار التي تأتي ب«أو»، كقوله: "وأرْسَلْنَاهُ إلى مائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ" وكقول الله جل ذكره: "وَإِنّا أوْ إيّاكُمْ لَعَلى هُدًى أوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ"، فهو عالم أيّ ذلك كان...
وقال بعضهم: ذلك كقول القائل: ما أطعمتك إلا حلوا أو حامضا، وقد أطعمه النوعين جميعا. فقالوا: فقائل ذلك لم يكن شاكّا أنه قد أطعم صاحبه الحلو والحامض كليهما، ولكنه أراد الخبر عما أطعمه إياه أنه لم يخرج عن هذين النوعين. قالوا: فكذلك قوله: "فَهِيَ كالحِجَارَةِ أوْ أشَدّ قَسْوَةً" إنما معناه: فقلوبهم لا تخرج من أحد هذين المثلين إما أن تكون مثلاً للحجارة في القسوة، وإما أن تكون أشدّ منها قسوة. ومعنى ذلك على هذا التأويل: فبعضها كالحجارة قسوة، وبعضها أشدّ قسوة من الحجارة.
وقال بعضهم: «أو» في قوله: أوْ أشَدّ قَسْوَةً بمعنى: وأشدّ قسوة، كما قال تبارك وتعالى: "وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثما أوْ كَفُورا" بمعنى: وكفورا...
وقال آخرون: «أو» في هذا الموضع بمعنى «بل»، فكان تأويله عندهم: فهي كالحجارة بل أشدّ قسوة، كما قال جل ثناؤه: وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ بمعنى: بل يزيدون.
وقال آخرون: معنى ذلك: فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة عندكم.
ولكل مما قيل من هذه الأقوال التي حكينا وجه ومخرج في كلام العرب، غير أن أعجب الأقوال إليّ في ذلك ما قلناه أوّلاً، ثم القول الذي ذكرناه عمن وجه ذلك إلى أنه بمعنى: فهي أوجه في القسوة من أن تكون كالحجارة أو أشدّ، على تأويل أن منها كالحجارة، ومنها أشدّ قسوة لأن «أو» وإن استعملت في أماكن من أماكن الواو حتى يلتبس معناها ومعنى الواو لتقارب معنييهما في بعض تلك الأماكن، فإن أصلها أن تأتي بمعنى أحد الاثنين، فتوجيهها إلى أصلها من وجد إلى ذلك سبيلاً أعجب إليّ من إخراجها عن أصلها ومعناها المعروف لها...
" وَإنّ مِنَ الحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهارُ": وإن من الحجارة حجارة يتفجر منها الماء الذي تكون منه الأنهار، فاستغنى بذكر الماء عن ذكر الأنهار، وإنما ذكّر فقال «منه» للفظ «ما». والتفجر: التفعل من فجر الماء، وذلك إذا تنزّل خارجا من منبعه، وكل سائل شخصَ خارجا من موضعه ومكانه فقد انفجر، ماء كان ذلك أو دما أو صديدا أو غير ذلك،
" وَإنّ مِنْهَا لَمَا يَشَقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ": وَإنّ مِنَ الحِجَارةِ لحجارة تشقق. وتشققها: تصدّعها. وإنما هي: لِمَا يتشقق، ولكن التاء أدغمت في الشين فصارت شينا مشددة "فَيَخْرُجُ مِنْهُ المَاءُ": فيكون عينا نابعة وأنهارا جارية.
" وَإنّ مِنْها لَمَا يَهبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ": وإن من الحجارة لما يهبط: أي يتردّى من رأس الجبل إلى الأرض والسفح من خوف الله وخشيته.
وأدخلت هذه اللامات اللواتي في «ما» توكيدا للخبر. وإنما وصف الله تعالى ذكره الحجارة بما وصفها به من أن منها المتفجر منه الأنهار، وأن منها المتشقق بالماء، وأن منها الهابط من خشية الله بعد الذي جعل منها لقلوب الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل مثلاً، معذرة منه جل ثناؤه لها دون الذين أخبر عن قسوة قلوبهم من بني إسرائيل إذ كانوا بالصفة التي وصفهم الله بها من التكذيب برسله والجحود لآياته بعد الذي أراهم من الآيات والعبر وعاينوا من عجائب الأدلة والحجج مع ما أعطاهم تعالى ذكره من صحة العقول ومنّ به عليهم من سلامة النفوس التي لم يعطها الحجر والمدر، ثم هو مع ذلك منه ما يتفجر بالأنهار ومنه ما يتشقق بالماء ومنه ما يهبط من خشية الله، فأخبر تعالى ذكره أن من الحجارة ما هو ألين من قلوبهم لما يدعون إليه من الحقّ... ثم اختلف أهل النحو في معنى هبوط ما هبط من الحجارة من خشية الله. فقال بعضهم: إن هبوط ما هبط منها من خشية الله: تفيؤ ظلاله. وقال آخرون: ذلك الجبل الذي صار دكا إذ تجلّى له ربه. وقال بعضهم: ذلك كان منه، ويكون بأن الله جل ذكره أعطى بعض الحجارة المعرفة والفهم، فعقل طاعة الله فأطاعه كالذي رُوي عن الجذع الذي كان يستند إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب فلما تحوّل عنه حنّ. وكالذي رُوي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ حَجَرا كانَ يُسَلّمُ عَليّ فِي الجاهِلِيّة إنّي لأَعْرِفُهُ الاَنَ».
وقال آخرون: بل قوله: يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ كقوله: جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقَضّ ولا إرادة له، قالوا: وإنما أريد بذلك أنه من عظم أمر الله يرى كأنه هابط خاشع من ذلّ خشية الله،
وقال آخرون: معنى قوله: "يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ" أي يوجب الخشية لغيره بدلالته على صانعه كما قيل: ناقة تاجرة: إذا كانت من نجابتها وفراهتها تدعو الناس إلى الرغبة فيها...
وهذه الأقوال وإن كانت غير بعيدات المعنى مما تحتمله الآية من التأويل، فإن تأويل أهل التأويل من علماء سلف الأمة بخلافها فلذلك لم نستجز صرف تأويل الآية إلى معنى منها. وقد دللنا فيما مضى على معنى الخشية، وأنها الرهبة والمخافة.
" وَما اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ": وما الله بغافل، يا معشر المكذّبين بآياته والجاحدين نبوّة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم والمتقوّلين عليه الأباطيل من بني إسرائيل وأحبار اليهود، عما تعملون من أعمالكم الخبيثة وأفعالكم الرديئة، ولكنه يحصيها عليكم، فيجازيكم بها في الاَخرة، أو يعاقبكم بها في الدنيا. وأصل الغفلة عن الشيء: تركه على وجه السهو عنه والنسيان له، فأخبرهم تعالى ذكره أنه غير غافل عن أفعالهم الخبيثة ولا ساه عنها، بل هو لها محص، ولها حافظ.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
شبَّه قلوبهم بالحجارة، لأنها لا تنبت ولا تزكو، وكذلك قلوبهم لا تفهم ولا تغنى. ثم بيَّن أنها أشد قسوة من الحجارة، فإنَّ من الحجارة لما يتفجّر منه الأنهار، ومنها ما تظهر عليه آثار خشية الله، وأمَّا قلوبهم فخالية عن كل خير، وكيف لا وقد مُنِيَتْ بإعراض الحقِّ عنها، وخُصَّتْ بانتزاع الخيرات منها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
معنى {ثُمَّ قَسَتْ}... من بعد ما ذكر مما يوجب لين القلوب ورقتها ونحوه: {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ}
وصفة القلوب بالقسوة والغلظ مثل لنبوّها عن الاعتبار وأنّ المواعظ لا تؤثر فيها.
و {ذلك} إشارة إلى إحياء القتيل، أو إلى جميع ما تقدّم من الآيات المعدودة
{فَهِي كالحجارة} فهي في قسوتها مثل الحجارة {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} منها...
والمعنى أن من عرف حالها شبهها بالحجارة أو بجوهر أقسى منها وهو الحديد مثلاً. أو من عرفها شبهها بالحجارة، أو قال: هي أقسى من الحجارة.
فإن قلت: لم قيل: أشد قسوة، وفعل القسوة مما يخرج منه أفعل التفضيل وفعل التعجب؟
قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة.
ووجه آخر: وهو أن لا يقصد معنى الأقسى ولكن قصد وصف القسوة بالشدة، كأنه قيل: اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشدّ قسوة...
وقوله: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة} بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة، وتقرير لقوله: (أو أشدّ قسوة)... والتفجر: التفتح بالسعة والكثرة. وقرأ مالك بن دينار «ينفجر» بالنون. {يَشَّقَّقُ} يتشقق. وبه قرأ الأعمش. والمعنى إنّ من الحجارة ما فيه خروق واسعة يتدفق منها الماء الكثير الغزير، ومنها ما ينشق انشقاقاً بالطول أو بالعرض فينبع منه الماء أيضاً
{يَهْبِطُ} يتردى من أعلى الجبل. وقرئ بضم الباء.
والخشية مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى وأنها لا تمتنع على ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به.
وقرئ «يعملون» بالياء والتاء، وهو وعيد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قال أبو العالية وقتادة وغيرهما: إنما أراد الله قلوب بني إسرائيل جميعاً في معاصيهم وما ركبوه بعد ذلك.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد التصور فضلاً عن الوقوع، أشار إليه بقوله {ثم قست} من القسوة وهي اشتداد التصلب والتحجر، {قلوبكم} ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال {من بعد ذلك} أي من بعدما تقدم وصفه من الخوارق في المراجعات وغيرها تذكيراً لهم بطول إمهاله لهم سبحانه مع توالي كفرهم وعنادهم، وتحذيراً من مثل ما أحل بأهل السبت.
{فهي} أي فتسبب عن قسوتها أن كانت {كالحجارة} التي هي أبعد الأشياء عن حالها، فإن القلب أحيى حيّ والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنه قد يلين.
ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين لين وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء كانت بحيث تحير الناظر في أمرها فقال {أو} قال الحرالي: هي كلمة تدل على بَهم الأمر وخفيته فيقع الإبهام والإيهام -انتهى. وهذا الإبهام بالنسبة إلى الرائين لهم من الآدميين، وأما الله تعالى فهو العالم بكل شيء قبل خلقه كعلمه به بعد خلقه وزاد أشد مع صحة بناء أفعل من قسى للدلالة على فرط القسوة فقال {أشد قسوة} لأنها لا تلين لما حقه أن يلينها والحجر يلين لما حقه أن يلينه وكل وصف للحي يشابه به ما دونه أقبح فيه مما دونه من حيث إن الحي مهيأ لضد تلك المشابهة بالإدراك.
ولما كان التقدير فإن الحجارة تنفعل بالمزاولة عطف عليه مشيراً إلى مزيد قسوتهم وجلافتهم بالتأكيد قوله: {وإن من الحجارة} وزاد في التأكيد تأكيداً لذلك قوله {لما يتفجر} أي يتفتح بالسعة والكثرة {منه الأنهار} ذكر الكثير مما يشاهد من ذلك وتذكيراً بالحجر المتفجر لهم منه الأنهار بضرب العصا ثم عطف على ذلك ما هو دونه فقال: {وإن منها لما يشقق} أي يسيراً بتكلف بما يشير إليه الإدغام والتفعل من التشقق وهو تفعل صيغة التكلف من الشق وهو مصير الشيء في الشقين أي ناحيتين متقابلتين- قاله الحرالي.
{فيخرج منه الماء} الذي هو دون النهر، ثم عطف على هذا ما هو أنزل من ذلك فقال: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله لأمر الملك الأعلى له بذلك،وقلوبكم لا تنقاد لشيء من الأوامر، فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل كالإرادة في حق الحجارة لما لها من الجمادية وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور عند تجلي الرب. قال الحرالي: والخشية وجل نفس العالم مما يستعظمه.
ولما كان التقدير: فما أعمالكم -أو: فما أعمالهم، على قراءة الغيب- مما يرضي الله؟ عطف عليه {وما} ويجوز أن يكون حالاً من قلوبكم أي قست والحال أنه ما {الله} أي الذي له الكمال كله {بغافل} والغفلة فقد الشعور بما حقه أن يشعر به {عما تعملون} فانتظروا عذاباً مثل عذاب أصحاب السبت؛ إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولم أر ذكر قصة البقرة في التوراة فلعله مما أخفوه لبعض نجاساتهم كما أشير إليه بقوله تعالى: "تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} [الأنعام: 91].
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
وصفهم الله تعالى بأنه قد طرأ عليهم بعد رؤية تلك الآيات ما أزال أثرها من قلوبهم، وذهب بعبرتها من عقولهم، فقال {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة} فالعطف ب"ثم" يفيد أن الأولين منهم قد خشعت قلوبهم لما رأوا في زمن موسى عليه السلام ما رأوا ثم خلف من بعدهم خلف كان أمر قسوتها ما وصفه عز وجل. والقسوة الصلابة وهي من صفات الأجسام. ووصف القلوب بالقسوة مجاز تشبيه مما يسمونه الاستعارة بالكناية، ويصح في "أو" الترديد والتشكيك وهو بالنسبة إلى المخاطبين لا إلى المتكلم باعتبار ما يعهد في التخاطب العربي كأن عربيا يحدث آخر ويقول له: إن هذه القلوب في قسوتها تشبه الحجارة أو تزيد عليها. ويصح فيها التقسيم أي إن القسوة عمت قلوبكم فأقلها قسوة يشبه الحجر الصلد، ومنها ما هو أشد منه قسوة، وأظهر منهما أن تكون للإضراب على طريقة المبالغة، أي بل هي أشد قسوة من الحجارة، إذ لا شعور فيها يأتي بخير، ولا عاطفة تفيض منها بعبرة، والحجارة ليست كذلك، لأن منها ما يفيض بالخيرات، ومنها ما يكون موضع ظهور آثار القدرة الإلهية في الجمادات.
وصف الحجارة بالثلاث الصفات الآتية بعد أن شبه القلوب بها في الصلابة المطلقة، وفرق بين القلوب وبينها بالإضراب والانتقال إلى أن القلوب أشد صلابة، وأراد أن يبين بهذه الصفات وجه ضعف الصلابة في الحجارة وشدتها في القلوب مكان الكلام يشبه أن يكون عذرا عن الحجارة دون القلوب، والمراد بالقلوب ما اعتبرت عنوانا له وهو الوجدان والعقل، وأكثر ما تستعمل في الأول لأنه سائق الإقناع والإذعان، ويطلق لفظ القلب على النفس الناطقة لأن من شأن القلب أن يتأثر مما يتأثر منه الوجدان أو العقل أو الروح مطلقا. وفي الكلام من المبالغة أن هذه القلوب فقدت خاصة التأثر والانفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات التي هي من خواص الروح الإنساني حتى كأن أصحابها هبطوا من درجة الحيوان إلى دركة الجماد كالحجارة، بل نزلوا عن دركة الحجارة أيضا، وذلك ما أفاده قوله تعالى {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله} التفجر تفعل من الفجر وهو الشق الواسع يكون للمطاوعة كفجرته فتفجر (بالتشديد فيهما) ويكون لتكرر الفعل وحصوله مرة بعد أخرى، ومثله التشقق إلا أنه أعم، ولما في التفجر من معنى السعة عبر به عن خروج الأنهار من الصخور الكبار وهو معهود في الجبال، وعبر بالتشقق لخروج الماء الذي يصدق بالقليل منه.
والمعنى أن هذه الحجارة على صلابتهما وقسوتها تتأثر بالماء الرقيق اللطيف فيشقها وينفذ منها بقلة أو كثرة فيحيي الأرض وينفع النبات والحيوان. وأما هذه القلوب فلم تعد تتأثر بالحكم والنذر ولا بالعظات والعبر، فالحكم لا تقوى على شقها والنفوذ منها إلى أعماق الوجدان، وأنوار الفطرة قد انطفأت فيها فلا يظهر شعاعها على إنسان، ومن الحجارة ما يشقه الماء القليل كماء العيون والينابيع الحجرية، ومنها ما لا يفجره إلا الماء الغمر الذي يسمى نهرا {وإن منها لما يهبط من خشية الله} وهو ما ينحط من أعلى الجبل ومن أثنائه بسبب أثر من آثار القهر الإلهي كالبراكين والصواعق التي تهبط بها الصخور وتندك الجبال، وقد جعل هذا شبها للآيات الإلهية التي أظهرها على يد عبده ونبيه موسى عليه السلام. فهي حوادث عظيمة في الكون تفزع بها نفوس المؤمنين إلى الله، وتخشع لأمره ونهيه، لعظمتها وخفاء سر إيجادها. كما تفزع النفوس من حوادث البراكين والصواعق التي تدك الصخور وتدمر الحصون، وقد أصبحت تلك القلوب بعد مشاهدة الآيات لا تتأثر بها ولا تزداد إيمانا.
فملخص التشبيه أن قلوبكم تشبه الحجارة في القسوة بل قد تزيد في القساوة عنها، فإن الحجارة الصم تتأثر في باطنها بالماء اللطيف النافع بعضها بالقوي منه وبعضها بالضعيف؛ ولكن قلوبكم لا تتأثر بالحكم والمواعظ التي من شأنها التأثير في الوجدان، والنفوذ إلى الحنان، والحجارة تتأثر بالحوادث الهائلة التي يحدثها الله في الكون كالصواعق والزلازل، ولكن قلوبكم لم تتأثر بتلك الآيات الإلهية التي تشبهها، فلا أفادت فيه المؤثرات الداخلية ولا المؤثرات الخارجية كما أفادت في الأحجار، فبذلك كانت قلوبكم أشد قسوة، ثم هددهم بقوله {وما الله بغافل عما تعملون} أي فهو سيربيكم بضروب النقم، إذا لم تتربوا بصنوف النعم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى.. هي حجارة لهم بها سابق عهد. فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى، ولا تنبض بخشية ولا تقوى.. قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء [أكانت] القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي وهو احتمال ضعيف أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازاً وهو الصحيح، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع...
ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة، أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعاً مغايراً لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول... فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة الحجارة، لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق، وهذه القلوب لم تُجْدِ فيها محاولة. وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها...
والخشية في الحقيقة الخوفُ الباعث على تقوى الخائف غيرَه. وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال.