قوله تعالى : { يا بني إسرائيل } . يا أولاد يعقوب . ومعنى إسرائيل : عبد الله ، وإيل هو الله تعالى ، وقيل صفوة الله ، وقرأ أبو جعفر : إسرائيل بغير همزة .
قوله تعالى : { اذكروا } . احفظوا ، والذكر : يكون بالقلب ويكون باللسان وقيل : أراد به الشكر ، وذكر بلفظ الذكر لأن في الشكر ذكراً وفي الكفران نسياناً ، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها .
قوله تعالى : { نعمتي } . أي : نعمي ، لفظها واحد ومعناها جمع كقوله تعالى ( وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) .
قوله تعالى : { التي أنعمت عليكم } . أي على أجدادكم وأسلافكم . قال قتادة : هي النعم التي خصت بها بنو إسرائيل : من فلق البحر وإنجائهم من فرعون بإغراقه ، وتظليل الغمام عليهم في التيه ، وإنزال المن والسلوى ، وإنزال التوراة ، في نعم كثيرة لا تحصى ، وقال غيره : هي جميع النعم التي لله عز وجل على عباده .
قوله تعالى : { وأوفوا بعهدي } . بامتثال أمري .
قوله تعالى : { أوف بعهدكم } . بالقبول والثواب ، قال قتادة و مجاهد : أراد بهذا العهد ما ذكر في سورة المائدة ( ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا ) إلى أن قال ( لأكفرن عنكم سيئاتكم ) فهذا قوله : أوف بعهدكم . وقال الحسن هو قوله ( وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة ) فهو شريعة التوراة ، وقال مقاتل : هو قوله ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله ) وقال الكلبي : عهد الله إلى بني إسرائيل على لسان موسى : إني باعث من بني إسماعيل نبياً أمياً فمن اتبعه وصدق بالنور الذي يأتي به غفرت له ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين اثنين : وهو قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ) يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وإياي فارهبون } . فخافوني في نقض العهد . وأثبت يعقوب الياءات المحذوفة في الخط مثل فارهبوني ، فاتقوني ، واخشوني ، والآخرون يحذفونها على الخط .
ثم شرع تعالى يذكِّر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال :
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ * وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ * وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ }
{ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } المراد بإسرائيل : يعقوب عليه السلام ، والخطاب مع فرق بني إسرائيل ، الذين بالمدينة وما حولها ، ويدخل فيهم من أتى من بعدهم ، فأمرهم بأمر عام ، فقال : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها ، والمراد بذكرها بالقلب اعترافا ، وباللسان ثناء ، وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه ويرضيه .
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } وهو ما عهده إليهم من الإيمان به ، وبرسله وإقامة شرعه .
{ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } وهو المجازاة على ذلك .
والمراد بذلك : ما ذكره الله في قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ [ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ] } إلى قوله : { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ }
ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده ، وهو الرهبة منه تعالى ، وخشيته وحده ، فإن مَنْ خشِيَه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نهيه .
يقول تعالى آمرا بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ، ومُهَيجًا لهم بذكر أبيهم إسرائيل ، وهو نبي الله يعقوب ، عليه السلام ، وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما تقول : يا ابن الكريم ، افعل كذا . يا ابن الشجاع ، بارز الأبطال ، يا ابن العالم ، اطلب العلم ونحو ذلك .
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا } [ الإسراء : 3 ] فإسرائيل هو يعقوب عليه السلام ، بدليل ما رواه أبو داود الطيالسي : حدثنا عبد الحميد بن بهرام ، عن شهر بن حَوشب ، قال : حدثني عبد الله بن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : " هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب ؟ " . قالوا : اللهم نعم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " اللهم اشهد{[1625]} " {[1626]} وقال الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء ، عن عمير مولى ابن عباس ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن إسرائيل كقولك : عبد الله .
وقوله تعالى : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سِوَى ذلك ، فَجَّر لهم الحجر ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، وأنجاهم من عبودية آل فرعون .
وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب .
قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم : { يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } [ المائدة : 20 ] يعني في زمانهم .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي : بلائي عندكم وعند آبائكم لِمَا كان نجاهم به من فرعون وقومه { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال : بعهدي الذي أخذت في{[1627]} أَعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم . { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أي : أنجز لكم ما وعدتكم عليه بتصديقه واتباعه ، بوضع ما كان عليكم من الإصر والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم .
[ وقال الحسن البصري : هو قوله : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } الآية [ المائدة : 12 ] . وقال آخرون : هو الذي أخذه الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبيًا عظيما يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم فمن اتبعه غُفر له ذنبه وأدخل الجنة وجعل له أجران . وقد أورد فخر الدين الرازي هاهنا بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم السلام بمحمد صلى الله عليه وسلم ]{[1628]} .
وقال أبو العالية : { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } قال : عهده إلى عباده : دينه الإسلام أن يتبعوه .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } قال : أرْض عنكم وأدخلكم الجنة .
وكذا قال السدي ، والضحاك ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس .
وقوله : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي : فاخشون ؛ قاله أبو العالية ، والسدي ، والربيع بن أنس ، وقتادة .
وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } أي أنزل بكم ما أنزل{[1629]} بمن كان قبلكم من آبائكم من النَّقِمَات التي قد عرفتم من المسخ وغيره .
وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب ، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول والاتعاظ بالقرآن وزواجره ، وامتثال أوامره ، وتصديق أخباره ، والله الهادي لمن يشاء إلى صراطه المستقيم ؛
ولهذا{[1630]} قال : { وَآمِنُوا بِمَا أَنزلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ }
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ( 40 )
{ يا } حرف نداء مضمن معنى التنبيه .
قال الخليل : «والعامل في المنادى فعل مضمر كأنه يقول : أريد أو أدعو » .
وقال أبو علي الفارسي : العامل حرف النداء عصب به( {[525]} ) معنى الفعل المضمر فقوي فعمل ، ويدل على ذلك أنه ليس في حروف المعاني ما يلتئم بانفراده مع الأسماء غير حرف النداء ، و { بني } منادى مضاف و { إسرائيل } هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام ، وهو اسم أعجمي يقال فيه أسراءل وإسرائيل وإسرائل ، وتميم تقول إسرائين ، وإسرا هو بالعبرانية عبد وإيل اسم الله تعالى فمعناه عبد الله .
وحكى المهدوي أن -إسرا- مأخوذ من الشدة( {[526]} ) في الأسر كأنه الذي شد الله أسره وقوى خلقته .
وروي عن نافع والحسن والزهري وابن أبي إسحاق ترك همز إسراييل ، والذكر في كلام العرب على أنحاء ، وهذا منها ذكر القلب الذي هو ضد النسيان( {[527]} ) ، والنعمة هنا اسم الجنس فهي مفردة بمعنى الجمع ، وتحركت الياء من { نعمتي } لأنها لقيت الألف واللام ، ويجوز تسكينها ، وإذا سكنت حذفت للالتقاء وفتحها أحسن لزيادة حرف في كتاب الله تعالى( {[528]} ) ، وخصص بعض العلماء النعمة في هذه الآية .
فقال الطبري : «بعثة الله الرسل منهم وإنزال المن والسلوى ، وإنقاذهم من تعذيب آل فرعون ، وتفجير الحجر » .
وقال غيره : «النعمة هنا أن أدركهم مدة محمد صلى الله عليه وسلم » .
وقال أخرون : «هي أن منحهم علم التوراة وجعلهم أهله وحملته » .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذه أقوال على جهة المثال ، والعموم في اللفظة هو الحسن .
وحكى مكي : أن المخاطب من بني إسرائيل بهذا الخطاب هم المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لأن الكافر لا نعمة لله عليه . ( {[529]} )
وقال ابن عباس وجمهور العلماء : بل الخطاب لجميع بني إسرائيل في مدة النبي عليه السلام ، مؤمنهم وكافرهم ، والضمير في { عليكم } يراد به على آبائكم كما تقول العرب ألم نهزمكم يوم كذا لوقعة كانت بين الآباء والأجداد ، ومن قال إنما خوطب المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم استقام الضمير في { عليكم } ويجيء كل ما توالى من الأوامر على جهة الاستدامة .
وقوله تعالى : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } أمر وجوابه .
فقال الخليل : «جزم الجواب في الأمر من معنى الشرط ، والوفاء بالعهد هو التزام ما تضمن من فعل » .
وقرأ الزهري : «أوَفّ » بفتح الواو وشد الفاء للتكثير .
واختلف المتأولون في هذا العهد إليهم فقال الجمهور ذلك عام في جميع أوامره ونواهيه ووصاياه فيدخل في ذلك ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في التوراة ، وقيل العهد قوله تعالى : { خذوا ما آتيناكم بقوة }( {[530]} ) [ البقرة : 63 ، 93 ] ، وقال ابن جريج : العهد قوله تعالى :
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل }( {[531]} ) [ المائدة : 12 ] ، وعهدهم هو أن يدخلهم الجنة ، ووفاؤهم بعهد الله أمارة لوفاء الله تعالى لهم بعهدهم ، لا علة له ، لأن العلة لا تتقدم المعلول( {[532]} ) .
وقوله تعالى : { وإياي فارهبون } الاسم إيا والياء ضمير ككاف المخاطب ، وقيل { إياي } يجملته هو الاسم ، وهو منصوب بإضمار فعل مؤخر ، تقديره : وإياي ارهبوا فارهبون ، وامتنع أن يتقدر مقدماً لأن الفعل إذا تقدم لم يحسن أن يتصل به إلا ضمير خفيف ، فكان يجيء وارهبون ، والرهبة يتضمن الأمر بها معنى التهديد وسقطت الياء بعد النون لأنها رأس آية . وقرأ ابن أبي إسحاق بالياء .