قوله تعالى : { وإذ قال ربك } . أي وقال ربك ، " وإذ " زائدة ، وقيل معناه واذكر إذ قال ربك وكذلك كل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله . " وإذ " حرفا توقيت إلا أن إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى " وإذ يمكر " يريد وإذ مكر ، وإذا جاء " إذا " مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله : ( فإذا جاءت الطامة إذا جاء نصر الله ) أي يجيء .
قوله تعالى : { للملائكة } . جمع ملك وأصله مالك من المألكة والألوكة والألوك ، وهي : الرسالة فقلبت فقيل ملأك ثم حذفت الهمزة طلباً للخفة لكثرة استعماله ونقلت حركتها إلى اللام فقيل ملك . وأراد بهم الملائكة الذين كانوا في الأرض وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجن الأرض فعبدوا دهراً طويلاً في الأرض ، ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا وقتلوا فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يقال لهم : الجن ، وهم خزان الجنان اشتق لهم من الجنة ، رأسهم إبليس وكان رئيسهم ومرشدهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض فطردوا الجن إلى شعوب الجبال وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة فأعطى الله إبليس ملك الأرض ، وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب فقال في نفسه : ما أعطاني الله هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله له ولجنده .
قوله تعالى : { إني جاعل في الأرض خليفة } . أي بدلاً منكم ورافعكم أي ، فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة والمراد بالخليفة هاهنا آدم سماه خليفة لأنه خلف الجن أي جاء بعدهم . وقيل لأنه يخلفه غيره ، والصحيح أنه خليفة الله في أرضه لإقامة أحكامه وتنفيذ قضاياه .
قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } . بالمعاصي .
قوله تعالى : { ويسفك الدماء } . بغير حق ، أي كما فعل بنو الجان فقاسوا الشاهد على الغائب وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب .
قوله تعالى : { ونحن نسبح بحمدك } . قال الحسن نقول : سبحان الله وبحمده وهو صلاة الخلق وصلاة البهائم وغيرهما سوى الآدميين ، وبها يرزقون .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنا عبد الغافر بن محمد ، أنا محمد بن عيسى ، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، أنا زهير بن حرب ، أنا جينان بن هلال ، أنا وهيب ، أنا سعيد الجريري ، عن أبي عبد الله الجسري ، عن ابن الصامت ، عن أبي ذر أن رسول صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ فقال : " ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده : سبحان الله وبحمده " وقيل : ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة .
قوله تعالى : { ونقدس لك } . أي نثني عليك بالقدس والطهارة عما لا يليق بعظمتك وجلالك . وقيل : نطهر أنفسنا لطاعتك وقيل : وننزهك . " واللام " صلة وقيل : لم يكن هذا في الملائكة على طريق الاعتراض والعجب بالعمل ، بل على سبيل التعجب وطلب وجه الحكمة فيه .
قوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } . من المصلحة فيه ، وقيل : إني أعلم أن في ذريته من يطيعني ويعبدني من الأنبياء والأولياء والصلحاء . وقيل : إني أعلم أن فيكم من يعصيني ، وهو إبليس ، وقيل إني أعلم أنهم يذنبون وأنا أغفر لهم . قرأ أهل الحجاز والبصرة إني أعلم بفتح الياء وكذلك كل ياء إضافة استقبلها ألف مفتوحة إلا في مواضع معدودة ويفتحون في بعض المواضع عند الألف المضمومة والمكسورة وعند غير الألف وبين القراء اختلاف .
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }
هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلام أبي البشر{[85]} أن الله حين أراد خلقه أخبر الملائكة بذلك ، وأن الله مستخلفه في الأرض .
فقالت الملائكة عليهم السلام : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [ و ]هذا تخصيص بعد تعميم ، لبيان [ شدة ] مفسدة القتل ، وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الأرض سيحدث منه ذلك ، فنزهوا الباري عن ذلك ، وعظموه ، وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } أي : ننزهك التنزيه اللائق بحمدك وجلالك ، { وَنُقَدِّسُ لَكَ } يحتمل أن معناها : ونقدسك ، فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص ، ويحتمل أن يكون : ونقدس لك أنفسنا ، أي : نطهرها بالأخلاق الجميلة ، كمحبة الله وخشيته وتعظيمه ، ونطهرها من الأخلاق الرذيلة .
قال الله تعالى للملائكة : { إِنِّي أَعْلَمُ } من هذا الخليفة { مَا لَا تَعْلَمُونَ } ، لأن كلامكم بحسب ما ظننتم ، وأنا عالم بالظواهر والسرائر ، وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة ، أضعاف أضعاف ما في ضمن ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك ، إلا أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم الأنبياء والصديقين ، والشهداء والصالحين ، ولتظهر آياته للخلق ، ويحصل من العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة ، كالجهاد وغيره ، وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم{[86]} من الخير والشر بالامتحان ، وليتبين عدوه من وليه ، وحزبه من حربه ، وليظهر ما كمن في نفس إبليس من الشر الذي انطوى عليه ، واتصف به ، فهذه حكم عظيمة ، يكفي بعضها في ذلك .
يخبر{[1471]} تعالى بامتنانه على بني آدم ، بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ } أي : واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة ، واقصص على قومك ذلك . وحكى ابن جرير عن بعض أهل العربية [ وهو أبو عبيدة ]{[1472]} أنه زعم أن " إذ " هاهنا زائدة ، وأن تقدير الكلام : وقال ربك . ورده ابن جرير .
قال القرطبي : وكذا رده جميع المفسرين حتى قال الزجاج : هذا اجتراء{[1473]} من أبي عبيدة .
{ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } أي : قوما يخلف بعضهم بعضا قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [ الأنعام : 165 ] وقال { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [ النمل : 62 ] . وقال { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] . وقال { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } [ مريم : 59 ] . [ وقرئ في الشاذ : " إني جاعل في الأرض خليقة " حكاه الزمخشري وغيره ونقلها القرطبي عن زيد بن علي ]{[1474]} . وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم ، عليه السلام ، فقط ، كما يقوله طائفة من المفسرين ، وعزاه القرطبي إلى ابن مسعود وابن عباس وجميع أهل التأويل ، وفي ذلك نظر ، بل الخلاف في ذلك كثير ، حكاه فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره ، والظاهر أنه لم يرد آدم عينًا إذ لو كان كذلك لما حسن قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } فإنهم{[1475]} إنما أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من صَلْصَال من حمإ مسنون [ أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ويقع بينهم من المظالم ويرد عنهم المحارم والمآثم ، قاله القرطبي ]{[1476]} أو أنهم قاسوهم على من سبق ، كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك .
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ، ولا على وجه الحسد لبني آدم ، كما قد يتوهمه بعض المفسرين [ وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول ، أي : لا يسألونه شيئا لم يأذن لهم فيه وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقًا . قال قتادة : وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } الآية ]{[1477]} وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ، ما الحكمة في خلق هؤلاء مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فإن كان المراد عبادتك ، فنحن نسبح بحمدك ونقدس لك ، أي : نصلي لك كما سيأتي ، أي : ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا ؟ قال الله تعالى مجيبا لهم عن هذا السؤال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : إني أعلم من المصلحة{[1478]} الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها{[1479]} ما لا تعلمون أنتم ؛ فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد فيهم الصديقون والشهداء ، والصالحون والعباد ، والزهاد والأولياء ، والأبرار والمقربون ، والعلماء العاملون والخاشعون ، والمحبون له تبارك وتعالى المتبعون رسله ، صلوات الله وسلامه عليهم .
وقد ثبت في الصحيح{[1480]} : أن الملائكة إذا صعدت إلى الرب تعالى بأعمال عباده سألهم وهو أعلم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون . وذلك لأنهم يتعاقبون فينا ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيمكث هؤلاء ويصعد أولئك بالأعمال كما قال عليه السلام : " يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل " فقولهم : أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون من تفسير قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } وقيل : معنى قوله جوابًا لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أن لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب لقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فقال : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به . وقيل : بل تضمن قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } طلبًا منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم . ذكرها فخر الدين مع غيرها من الأجوبة ، والله أعلم .
ذكر أقوال المفسرين ببسط ما ذكرناه :
قال ابن جرير : حدثني القاسم بن الحسن قال : حدثنا الحسين قال : حدثني الحجاج ، عن جرير بن حازم ، ومبارك ، عن الحسن وأبي بكر ، عن الحسن وقتادة ، قالوا : قال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم : إني فاعل . وهذا معناه أنه أخبرهم بذلك .
وقال السدي : استشار الملائكة في خلق آدم . رواه ابن أبي حاتم ، قال{[1481]} : وروي عن قتادة نحوه . وهذه العبارة إن لم ترجع إلى معنى الإخبار ففيها تساهل ، وعبارة الحسن وقتادة في رواية ابن جرير أحسن ، والله أعلم .
{ فِي الأرْضِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد{[1482]} حدثنا عطاء بن السائب ، عن عبد الرحمن بن سابط أن رسول الله{[1483]} صلى الله عليه وسلم قال : " دُحِيت الأرض من مكة ، وأول من طاف بالبيت الملائكة ، فقال الله : إني جاعل في الأرض خليفة ، يعني مكة " {[1484]} .
وهذا مرسل ، وفي سنده ضعف ، وفيه مُدْرَج ، وهو أن المراد بالأرض مكة ، والله أعلم ، فإن الظاهر أن المراد بالأرض أعم من ذلك .
{ خَلِيفَةً } قال السدي في تفسيره عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن ابن مسعود ، وعن ناس من الصحابة أن الله تعالى قال للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا{[1485]} : ربنا وما يكون ذلك الخليفة ؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون ويقتل بعضهم بعضا .
قال ابن جرير : فكان تأويل الآية على هذا : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } مني ، يخلفني في الحكم بين خلقي ، وإن ذلك الخليفة هو آدم ومن قام مقامه في طاعة الله والحكم{[1486]} بالعدل بين خلقه . وأما الإفساد وسفك الدماء بغير حقها{[1487]} فمن غير خلفائه .
قال ابن جرير : وإنما [ كان تأويل الآية على هذا ]{[1488]} معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرنا .
قال : والخليفة الفعلية من قولك ، خلف فلان فلانا في هذا الأمر : إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ يونس : 14 ] . ومن ذلك قيل للسلطان الأعظم : خليفة ؛ لأنه خلف الذي كان قبله ، فقام بالأمر مقامه ، فكان منه خَلَفًا .
قال : وكان محمد بن إسحاق يقول في قوله تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } يقول : ساكنا وعامرا يسكنها ويعمرها خلفا ليس منكم .
قال ابن جرير : وحدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عثمان بن سعيد ، حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : أول من سكن الأرض الجنُّ ، فأفسدوا فيها وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم{[1489]} بجزائر البحور وأطراف الجبال . ثم خلق آدم وأسكنه إياها ، فلذلك قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً }{[1490]} .
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن ابن سابط : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } قال : يعنون [ به ]{[1491]} بني آدم .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال الله للملائكة : إني أريد أن أخلق في الأرض خلقا وأجعل فيها خليفة وليس لله ، عز وجل ، خلق إلا الملائكة ، والأرض ليس فيها خلق ، قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها [ ويسفك الدماء ]{[1492]} ؟ !
وقد تقدم ما رواه السدي ، عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة : أن الله أعلم الملائكة بما يفعل ذرّية آدم ، فقالت الملائكة ذلك . وتقدم آنفا{[1493]} ما رواه الضحاك ، عن ابن عباس : أن الجن أفسدوا في الأرض قبل بني آدم ، فقالت الملائكة ذلك ، فقاسوا هؤلاء بأولئك .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطَّنَافِسي ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن بُكَير{[1494]} بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : كان الجن بنو الجان في الأرض قبل أن يخلق آدم بألفي سنة ، فأفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، فبعث الله جندا من الملائكة فضربوهم ، حتى ألحقوهم بجزائر البحور ، فقال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قالوا : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ قال : إني أعلم ما لا تعلمون{[1495]} .
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } إلى قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 33 ] قال : خلق الله الملائكة يوم الأربعاء وخلق الجن يوم الخميس ، وخلق آدم يوم الجمعة ؛ فكفر قوم من الجن ، فكانت الملائكة تهبط إليهم في الأرض فتقاتلهم ، فكانت الدماء بينهم ، وكان الفساد في الأرض ، فمن ثم قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كما أفسدت الجن { وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } كما سَفَكُوا .
قال ابن أبي حاتم : وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا مبارك بن فضالة ، حدثنا الحسن ، قال : قال الله للملائكة : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } قال لهم : إني فاعل . فآمنوا بربهم{[1496]} ، فعلمهم علمًا وطوى عنهم علمًا علمه ولم يعلموه ، فقالوا بالعلم الذي علمهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؟ { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }
قال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون{[1497]} ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون فقالوا بالقول الذي عَلَّمهم .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } كان [ الله ]{[1498]} أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خَلْق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء ، فذلك حين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا }{[1499]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام الرازي ، حدثنا ابن المبارك ، عن معروف ، يعني ابن خَرّبوذ المكي ، عمن سمع أبا جعفر محمد بن علي يقول : السّجِلّ ملك ، وكان هاروت وماروت من أعوانه ، وكان له في كل يوم ثلاث لمحات ينظرهن في أم الكتاب ، فنظر نظرة لم تكن له فأبصر فيها خلق آدم وما كان فيه من الأمور ، فأسَر ذلك إلى هاروت وماروت ، وكانا من أعوانه ، فلما قال تعالى : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } قالا ذلك استطالة على الملائكة .
وهذا أثر غريب . وبتقدير صحته إلى أبي جعفر محمد بن علي بن الحسن الباقر ، فهو نقله عن أهل الكتاب ، وفيه نكارة توجب رده ، والله أعلم . ومقتضاه أن الذين قالوا ذلك إنما كانوا اثنين فقط ،
وأغرب منه ما رواه ابن أبي حاتم - أيضًا - حيث قال : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن أبي عَبْد الله ، حدثنا عبد الله بن يحيى بن أبي كثير ، قال : سمعت أبي يقول : إن الملائكة الذين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } كانوا عشرة آلاف ، فخرجت نار من عند الله فأحرقتهم .
وهذا - أيضًا - إسرائيلي منكر كالذي قبله ، والله أعلم .
قال ابن جريج : إنما تكلموا بما أعلمهم الله أنه كائن من خلق آدم ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }
وقال ابن جرير : وقال بعضهم : إنما قالت الملائكة ما قالت : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } ؛ لأن الله أذن لهم{[1500]} في السؤال عن ذلك ، بعد ما أخبرهم{[1501]} أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة ، فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم ! ؟ فأجابهم ربهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } يعني : أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض من ترونه لي طائعا .
قال : وقال بعضهم : ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا ، مسألة [ الملائكة ]{[1502]} استخبار منهم ، لا على وجه الإنكار ، واختاره ابن جرير .
وقال سعيد عن قتادة قوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } فاستشار الملائكة في خلق آدم ، فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } وقد علمت الملائكة من علم الله أنه لا شيء أكره إلى الله من سفك الدماء والفساد في الأرض { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } فكان في علم الله أنه سيكون من تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، قال : وذكر لنا عن ابن عباس أنه كان يقول : إن الله لما أخذ في خلق آدم قالت الملائكة : ما الله خالق خلقا أكرم عليه منا ولا أعلم منا ، فابتلوا بخلق آدم ، وكل خلق مبتلى كما ابتليت السماوات والأرض بالطاعة فقال : { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] .
وقوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة : التسبيحُ : التسبيحُ ، والتقديس : الصلاة{[1503]} .
وقال السدي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرّة ، عن ابن مسعود - وعن ناس من الصحابة : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : يقولون : نصلي لك .
وقال مجاهد : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : نعظمك ونكبرك .
وقال الضحاك : التقديس : التطهير .
وقال محمد بن إسحاق : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } قال : لا نعصي ولا نأتي شيئًا تكرهه .
وقال ابن جرير : التقديس : هو التعظيم والتطهير ، ومنه قولهم : سُبُّوح قُدُّوس ، يعني بقولهم : سُبوح ، تنزيه له ، وبقولهم : قدوس ، طهارة وتعظيم له . ولذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة . فمعنى قول الملائكة إذًا : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهلُ الشرك بك { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ننسبك إلى ما هو من صفاتك ، من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .
[ وفي صحيح مسلم عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أي الكلام أفضل ؟ قال : «ما اصطفى الله لملائكته سبحان الله وبحمده »{[1504]} وروى البيهقي عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحًا في السماوات العلا «سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى »{[1505]} ]{[1506]} .
{ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ } قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنو الجنة ، وسيأتي عن ابن مسعود وابن عباس وغير واحد من الصحابة والتابعين أقوال في حكمة قوله تعالى : { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ }
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما يختلفون فيه ، ويقطع تنازعهم ، وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش ، إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنة في أبي بكر ، أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصديق بعمر بن الخطاب ، أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له فيجب التزامها عند الجمهور وحكى على ذلك{[1507]} إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم ، أو بقهر واحد الناس على طاعته فتجب لئلا يؤدي ذلك إلى الشقاق والاختلاف ، وقد نص عليه الشافعي .
وهل يجب الإشهاد على عقد الإمامة ؟ فيه خلاف ، فمنهم من قال : لا يشترط ، وقيل : بلى ويكفي شاهدان . وقال الجبائي : يجب أربعة وعاقد ومعقود له ، كما ترك عمر رضي الله عنه ، الأمر شورى بين ستة ، فوقع الأمر على عاقد وهو عبد الرحمن بن عوف ، ومعقود له وهو عثمان ، واستنبط وجوب الأربعة الشهود من الأربعة الباقين ، وفي هذا نظر ، والله أعلم .
ويجب أن يكون ذكرًا حرًا بالغًا عاقلا مسلمًا عدلا مجتهدًا بصيرًا سليم الأعضاء خبيرًا بالحروب والآراء قرشيًا على الصحيح ، ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافًا للغلاة الروافض ، ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا ؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : " إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان " {[1508]} وهل له أن يعزل نفسه ؟ فيه خلاف ، وقد عزل الحسن بن علي نفسه وسلم الأمر إلى معاوية لكن هذا لعذر وقد مدح على ذلك .
فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : " من جاءكم وأمركم جميع يريد أن يفرق بينكم فاقتلوه كائنًا من كان " {[1509]} . وهذا قول الجمهور ، وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، منهم إمام الحرمين ، وقالت الكرامية : يجوز نصب إمامين فأكثر كما كان علي ومعاوية إمامين واجبي الطاعة ، قالوا : وإذا جاز بعث نبيين في وقت واحد وأكثر جاز ذلك في الإمامة ؛ لأن النبوة أعلى رتبة بلا خلاف ، وحكى إمام الحرمين عن الأستاذ أبي إسحاق أنه جوز نصب إمامين فأكثر إذا تباعدت الأقطار واتسعت الأقاليم بينهما ، وتردد إمام الحرمين في ذلك ، قلت : وهذا يشبه حال خلفاء بني العباس بالعراق والفاطميين بمصر والأمويين بالمغرب .
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ( 30 )
قال معمر بن المثنى : «إذ زائدة ، والتقدير وقال ربك » .
قال أبو إسحاق الزجاج : «هذا اجتراء من أبي عبيدة » .
قال القاضي أبو محمد : وكذلك رد عليه جميع المفسرين( {[406]} ) .
وقال الجمهور : ليست بزائدة وإنما هي معلقة بفعل مقدر تقديره واذكر إذ قال( {[407]} ) ، وأيضاً فقوله : { خلق لكم ما في الأرض جميعاً } الآية ، يقتضي أن يكون التقدير وابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة ، وإضافة رب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ومخاطبته بالكاف تشريف منه له ، وإظهار لاختصاصه به ، والملائكة واحدها ملك أصله ملاك على وزن مفعل من لاك إذا أرسل ، وجمعه ملائكة على وزن مفاعلة .
وقال قوم : أصل ملك مألك ، من ألك إذا أرسل ، ومنه قول عدي بن زيد : [ الرمل ]
أبلغ النعمان عني مألكا . . . أنه قد طال حبسي وانتظاري
واللغتان مسموعتان لأك وألك ، قلبت فيه( {[408]} ) الهمزة بعد اللام فجاء وزنه معفل ، وجمعه ملائكة ، وزنه معافلة .
وقال ابن كيسان( {[409]} ) : «هو من ملك يملك ، والهمزة فيه زائدة كما زيدت في شمأل من شمل ، فوزنه فعأل ، ووزن جمعه فعائلة » وقد يأتي في الشعر على أصله كما قال : [ الطويل ]
فلستِ لأنسيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ . . . تَنَزَّلَ مَن جَوِّ السماءِ يصُوبُ
وأما في الكلام فسهلت الهمزة( {[410]} ) وألقيت حركتها على اللام أو على العين في قول ابن كيسان فقيل ملك ، والهاء في ملائكة لتأنيث الجموع( {[411]} ) غير حقيقي ، وقيل هي للمبالغة كعلامة ونسابة ، والأول أبين .
وقال أبو عبيدة : «الهمزة في ملائكة مجتلبة( {[412]} ) لأن واحدها ملك » .
قال القاضي أبو محمد بن عبد الحق رضي الله عنه : فهذا الذي نحا إليه ابن كيسان .
و { جاعل } في هذه الآية بمعنى خالق ، ذكره الطبري عن أبي روق( {[413]} ) ، ويقضي بذلك تعديها إلى مفعول واحد .
وقال الحسن وقتادة : «جاعل بمعنى فاعل » .
وقال ابن سابط( {[414]} ) عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن الأرض هنا يعني بها مكة لأن الأرض دحيت من تحتها ، ولأنها مقرٌّ من هلك قومه من الأنبياء ، وإن قبر نوح وصالح بين المقام والركن » .
قال ابن عباس : «كانت الجن قبل بني آدم في الأرض فأفسدوا وسفكوا الدماء فبعث الله إليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم وألحق فلَّهم بجزائر البحار ورؤوس الجبال ، وجعل آدم وذريته خليفة »( {[415]} ) .
وقال الحسن : «إنما سمى الله بني آدم خليفة لأن كل قرن منهم يخلف الذي قبله ، الجيل بعد الجيل » .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : ففي هذا القول ، يحتمل أن تكون بمعنى خالفة وبمعنى مخلوفة . ( {[416]} )
وقال ابن مسعود : «إنما معناه خليفة مني في الحكم بين عبادي بالحق وبأوامري » يعني ذلك آدم عليه السلام ومن قام مقامه بعده من ذريته .
وقرأ زيد بن علي «خليقة » بالقاف .
وقوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها } الآية ، وقد علمنا قطعاً أن الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول ، وذلك عام في جميع الملائكة ، لأن قوله : «لا يسبقونه بالقول » خرج على جهة المدح لهم( {[417]} ) .
قال القاضي أبو بكر بن الطيب : «فهذه العموم ، فلا يصح مع هذين الشرطين إلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة في الأرض نبأ ومقدمة » .
قال ابن زيد وغيره : إن الله تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكون من ذريته قوم يفسدون ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالة .
قال القاضي أبو محمد : فهذا إما على طريق التعجب من استخلاف الله من يعصيه ، أو من عصيان من يستخلفه الله في أرضه وينعم عليه بذلك ، وإما على طريق الاستعظام والإكبار للفصلين جميعاً ، الاستخلاف ، والعصيان . ( {[418]} )
وقال أحمد بن يحيى ثعلب وغيره : إنما كانت الملائكة قد رأت وعلمت ما كان من إفساد الجن وسفكهم الدماء في الأرض فجاء قولهم { أتجعل فيها } الأية ، على جهة الاستفهام المحض ، هل هذا الخليفة على طريقة من تقدم من الجن أم لا ؟
وقال آخرون : كان الله تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرض خلقاً يفسدون ويسفكون الدماء ، فلما قال لهم بعد ذلك : { إني جاعل } { قالوا أتجعل فيها } الآية ، على جهة الاسترشاد والاستعلام هل هذا الخليفة هو الذي كان أعلمهم به قبل أو غيره ؟
والسفك صب الدم ، هذا عرفه ، ، وقد يقال سفك كلامه في كذا إذا سرده .
وقرأءة الجمهور بكسر الفاء ( {[419]} ) .
وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة : «ويسفكُ » بضم الفاء .
وقرأ ابن هرمز «ويسفك » بالنصب بواو الصرف ( {[420]} ) كأنه قال : من يجمع أن يفسد وأن يفسك .
وقال المهدوي : هو نصب في جواب الاستفهام .
قال القاضي أبو محمد والأول أحسن . ( {[421]} )
وقولهم : { ونحن نسبح بحمدك } قال بعض المتأولين : هو على جهة الاستفهام ، كأنهم أرادوا { ونحن نسبح بحمدك } الآية ، أن نتغير عن هذه الحال .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحض في قولهم : { أتجعل } ؟ .
وقال آخرون : معناه التمدح ووصف حالهم( {[422]} ) ، وذلك جائز لهم كما قال يوسف عليه السلام : { إني حفيظ عليم } [ يوسف : 55 ] .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يحسن مع التعجب الاستعظام لأن يستخلف الله من يعصيه في قولهم { أتجعل } وعلى هذا أدبهم بقوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } .
وقال قوم : معنى الآية ونحن لو جعلتنا في الأرض واستخلفتنا نسبح بحمدك . وهذا أيضاً حسن مع التعجب والاستعظام في قولهم : { أتجعل } .
ومعنى { نسبح بحمدك } ننزهك عما لا يليق بك وبصفاتك .
وقال ابن عباس وابن مسعود : «تسبيح لملائكة صلاتهم لله » .
وقال قتادة : «تسبيح الملائكة قولهم سبحان الله على عرفه في اللغة .
و { بحمدك } معناه : نخلط التسبيح بالحمد ونصله به( {[423]} ) ، ويحتمل أن يكون قوله { بحمدك } اعتراضاً بين الكلامين ، كأنهم قالوا ونحن نسبح ونقدس ، ثم اعترضوا على جهة التسليم ، أي وأنت المحمود في الهداية إلى ذلك .
{ ونقدس لك } قال الضحاك وغيره : معناه نطهر أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك ، والتقديس التطهير بلا خلاف ، ومنه الأرض المقدسة أي المطهرة ، ومنه بيت المقدس ، ومنه القدس( {[424]} ) الذي يتطهر به .
وقال آخرون : { ونقدس لك } معناه ونقدسك( {[425]} ) أي نعظمك ونطهر ذكرك عما لا يليق به . قاله مجاهد وأبو صالح وغيرهما .
وقال قوم : نقدس لك معناه نصلي لك .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف( {[426]} ) .
وقوله تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } الأظهر أن { أعلم } فعل مستقبل ، و { ما } في موضع نصب به ، وقيل { أعلم } اسم ، و { ما } في موضع خفض بالإضافة ، ولا يصح الصرف فيه بإجماع من النحاة ، وإنما الخلاف في أفعل إذا سمي به وكان نكرة ، فسيبويه والخليل لا يصرفانه ، والأخفش يصرفه .
واختلف أهل التأويل في المراد بقوله تعالى : { ما لا تعلمون } فقال ابن عباس : » كان إبليس- لعنه الله- قد أعجب ودخله الكبر لما جعله الله خازن السماء الدنيا وشرفه « . وقيل : بل لما بعثه الله إلى قتل الجن الذين كانوا أفسدوا في الأرض فهزمهم وقتلهم بجنده ، قاله ابن عباس أيضاً ، واعتقد( {[427]} ) أن ذلك لمزية له واستخف( {[428]} ) الكفر والمعصية في جانب آدم عليه السلام .
قال : فلما قالت الملائكة { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك . قال الله لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني ما في نفس إبليس( {[429]} ) .
وقال قتادة : لما قالت الملائكة { أتجعل فيها من يفسد فيها } وقد علم الله تعالى أن فيمن يستخلف في الأرض أنبياء وفضلاء وأهل طاعة ، قال لهم { إني أعلم ما لا تعلمون } يعني أفعال الفضلاء من بني آدم . ( {[430]} )