قوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } أي : معكم ، يريد : أنتم منهم وهم منكم .
قوله تعالى : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } ، وهذا نسخ التوارث بالهجرة ، ورد الميراث إلى ذوي الأرحام .
قوله تعالى : { في كتاب الله } أي : في حكم الله عز وجل ، وقيل : أراد بكتاب الله القرآن ، يعني : القسمة التي بينها في سورة النساء .
وكذلك من جاء بعد هؤلاء المهاجرين والأنصار ، ممن اتبعهم بإحسان فآمن وهاجر وجاهد في سبيل اللّه . { فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ْ } لهم ما لكم وعليهم ما عليكم{[360]}
فهذه الموالاة الإيمانية - وقد كانت في أول الإسلام - لها وقع كبير وشأن عظيم ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين المهاجرين والأنصارأخوة خاصة ، غير الأخوة الإيمانية العامة ، وحتى كانوا يتوارثون بها ، فأنزل اللّه { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ْ } فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض ، فإن لم يكونوا ، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام ، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة ، وقوله : { فِي كِتَابِ اللَّهِ ْ } أي : في حكمه وشرعه .
{ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ْ } ومنه ما يعلمه من أحوالكم التي يجري من شرائعه الدينية عليكم ما يناسبها .
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر ما لهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان ، كما تقدم في أول السورة ، وأنه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن ذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم ، وهو الحسن الكثير الطيب الشريف ، دائم مستمر أبدا لا ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه .
ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ } الآية [ التوبة : 100 ] ، وقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 10 ] وفي الحديث المتفق عليه ، بل المتواتر من طرق صحيحة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المرء مع من أحب " ، وفي الحديث الآخر : " من أحب قوما حُشر معهُم " {[13215]}
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، عن شريك ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن جرير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المهاجرون والأنصار أولياء بعضهم لبعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقيف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة " . قال شريك : فحدثنا الأعمش ، عن تميم بن سلمة ، عن عبد الرحمن بن هلال ، عن جرير ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله .
تفرد به أحمد من هذين الوجهين{[13216]}
وأما قوله تعالى : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } أي : في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأُوْلُوا الأرْحَامِ } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة ، الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يُدْلون بوارث ، كالخالة ، والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة ، بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات . كما نص ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة وغير واحد : على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أو لا وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص . ومن لم يورثهم يحتج بأدلة من أقواها حديث : " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه ، فلا وصِيَّة لوارث " ، قالوا : فلو كان ذا حق لكان له فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك لم يكن وارثا ، والله أعلم .
آخر [ تفسير ]{[13217]} سورة " الأنفال " ، ولله الحمد والمنة ، وعليه{[13218]} [ الثقة و ]{[13219]} التكلان وهو حسبنا ونعم الوكيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلََئِكَ مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىَ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : والذين آمنوا بالله ورسوله من بعد تبياني ما بينت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر وهاجروا دار الكفر إلى دار الإسلام وجاهدوا معكم أيها المؤمنون ، فأولئك منكم في الولاية يجب عليكم لهم من الحقّ والنصرة في الدين والموارثة مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعض . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم رد المواريث إلى الأرحام التي بينها فقال : وَالّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ أي في الميراث ، إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .
القول في تأويل قوله تعالى : وأُلُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ .
يقول تعالى ذكره : والمتناسبون بالأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث ، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبا وحظّا من الحليف والوليّ ، فِي كِتاب اللّهِ يقول : في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء . إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يقول : إن الله عالم بما يصلح عباده في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب دون الحلف بالعقد ، وبغير ذلك من الأمور كلها ، لا يخفى عليه شيء منها .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أحمد بن المقدام ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا قتادة أنه قال : كان لا يرث الأعرابي المهاجرَ حتى أنزل الله : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن معاذ ، قال : حدثنا ابن عون ، عن عيسى بن الحرث ، أن أخاه شريح بن الحرث كانت له سرية فولدت منه جارية ، فلما شبت الجارية زوّجت ، فولدت غلاما ، ثم ماتت السرّية ، واختصم شريح بن الحرث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها ، فجعل شريح بن الحرث يقول : ليس له ميراث في كتاب الله . قال : فقضى شريح بالميراث للغلام . قال : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير ، وأخبره بقضاء شريح وقوله ، فكتب ابن الزبير إلى شريح أن ميسرة أخبرني أنك قضيت بكذا وكذا وقلت : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ وإنه ليس كذلك ، إنما نزلت هذه الاَية : أن الرجل كان يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك ، فنزلت : وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ . فجاء بالكتاب إلى شريح ، فقال شريح : أعتقها جنين بطنها وأبى أن يرجع عن قضائه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : ثني عيسى بن الحرث ، قال : كانت لشريح بن الحرث سرية ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال في حديثه : كان الرجل يعاقد الرجل يقول : ترثني وأرثك فلما نزلت ترك ذلك .
وقوله تعالى : { وجاهدوا معكم } لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر ، قوله { فأولئك منكم } كذلك ، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم{[5495]} وابن أخت القوم منهم »{[5496]} ، وقوله { وأولو الأرحام }{[5497]} إلى آخر السورة ، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري ، ووجب بهذه الآية الأخيرة أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجراً معه ، وقالت فرقة منها مالك بن أنس رحمه الله : إن الآية ليست في المواريث ، وهذا ِفرار عن توريث الخال والعمة ونحو ذلك ، وقالت فرقة : هي في المواريث إلا أنها نسخت بآية المواريث المبينة ، وقوله { في كتاب الله } ، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله ، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ ، و { عليم } صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام ، كمل تفسير سورة الأنفال .