محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

75 { والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم }

{ والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم } أي من جملتكم ، أي المهاجرون والأنصار ، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة ، وكمال الإيمان والمغفرة والرزق الكريم .

وهل المراد من قوله : { من بعد } هو من بعد الهجرة الأولى ، أو من بعد الحديبية . وهي الهجرة الثانية ، أو من بعد نزول هذه الآية ، أو من بعد يوم بدر ؟ أقوال - واللفظ الكريم يعمها كلها ، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } أي في حكمته وقسمته ، أو في اللوح ، أو في القرآن ، لأن { كتاب الله } يطلق على كل منها { إن الله بكل شيء عليم } فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح .

تنبيهات

الأول – إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله { بعضهم أولياء بعض } وما بعده بالتوارث .

أخرج أبو داود{[4438]} من حديث ابن عباس قال : " كان الرجل يحالف الرجل ، ليس بينهما /نسب ، فيرث أحدهما من الآخر ، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال : { أولوا الأرحام . . . } الخ " إلا أن في إسناده من فيه مقال .

وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم ، فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض . وذلك أن تلك الآية ، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث ، بين الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة ، إلا ما خصه الدليل ، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم .

قال الرازي : وهذا أولى ، لأن تكثير النسخ ، من غير ضرورة وحاجة ، لا يجوز .

الثاني – استدل بالآية من ورث ذوي الأرحام ، وهم من ليسوا بعصبات ، ولا ذوي سهام . قال : ويعضده حديث{[4439]} : " الخال وارث من لا وارث له " وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات . ومن الحديث : " من كان وارثه الخال فلا وارث له " . ورد بأنها عامة فلا موجب للتخصيص وبأن معنى الحديث : من كان لا وارث له غيره ، لحديث : " أنا عماد من لا عماد له " .

ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب ، أو بالتنزيل ، وهل يرث القريب مع البعيد ، وهل يفضل الذكر على الأنثى ؟ أوْ لاَ ؟ والآية محتملة . أفاده بعض مفسري الزيدية .

قال ابن كثير : ليس المراد بقوله : { وأولوا الأرحام } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم ، كما يزعمه بعضهم ويحتج بالآية ، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة . بل الحق أن الآية عامة ، تشمل جميع القرابات ، كما نص عليه ابن عباس / ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص ، ومن لم يورثهم يحتج بأدلة ، من أقواها حديث{[4440]} " إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " ، قالوا : فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى ، فلما لم يكن كذلك ، ولم يكن وارثا . انتهى .

ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال ، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض . على أن معنى الحديث ، أعطى كل ذي حق حقه مفصلا ومجملا ، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة ، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين ، وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل .

وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في ( تاريخ الوزراء ) في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات ، نأثرها هنا ، لأنها جمعت فأوعت قال رحمه الله :

ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابه إليه في أمر المواريث : وصل كتاب الأمير يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجبا من مال المواريث لبيت المال ، وما لا أراه واجبا منه ، وتلخيص ذلك وتبيينه- وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله- .

الناس مختلفون في توريث الأقارب ، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة – إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم ، لجماعة من المسلمين وبيت مالهم . وكذلك يقول في الفصل بعد السُّهمان المسماة ، إذا لم تكن عصبة . ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت . وقد خالفه عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وجعلوا ما يفضل من السهمان ردا على أصحاب السهام من القرابة ، وجعلوا / المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه . والسنة تعاضد ما روي عنهم ، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه . وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي . قال تعالى{[4441]} : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم } فصير القريب أولى من البعيد . وإلى هذا ذهب عمر وعلي وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة ، وعليه اعتمدوا وبه تمسكوا- والله أعلم .

ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة ، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين ، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته . وإذا رد أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيدا لا يفي علمه بعلم عمر وعلي وعبد الله ؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة ، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت ، واطرح ما روى عنهم ، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه ، وبالسنة فيما أفتوا به ؟ والرواية ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة . فمن ذلك ما ذكر لنا عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهروي عن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه وسلم{[4442]} أنه قال : " الخال وارث من لا وارث له يرث ماله ، ويعقل عنه " . وكذلك بلغنا عن شريك بن عبد الله عن ليث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وعن ابن جريج عن عمر بن سلم عن طاوس عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مثل ذلك . وذكر عن عبادة بن أبي عباد عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال : " توفي ثابت بن أبي الدحداح ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعاصم بن عدي : أله فيكم نسب ؟ قال : فدفع تركته إلى ابن أخته " فقد أوجب عليه السلام ، بما نقلته عنه هذه الرواية ، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السُّهمان المبينة في الكتاب . وأعطى الجدة السدس من الميراث ، ولا فرض لها ، وفي ذلك الاتفاق ، وفيما صير لها من السدس ، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها ؟ إذا بطلت السهام ، ولم يكن أهلها ، وأنه أولى بالميراث من الأجنبي .

والمروي عن زيد بن ثابت أنه جعل الفضل عن سهام الفرائض ، وكل المال ، إذا سقطت السهام بعد أهلها ، لجماعة المسلمين . فجعلهم كلهم وارثا ، وجعل ما يصير لهم من ذلك – في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك- يكون فيما روى عنه للناس كافة ، وعددهم لا يحصى ، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض ، مشارقها ومغاربها . وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن ، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة . وقد تأول بعض المتأولين قول الله تعالى{[4443]} { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } فقال فيه : كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة . فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب ، مُنع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص ، فذلك غير واجب مع عدم الدليل ، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم .

وبعد ، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه ، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض ، لوجب في بدءٍ ، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما . وعلى المقدم من حكمهما ، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل ( من له سهم ) دون ( من لا سهم له ) ، فإذا ارتفع المانع ، رجع الحكم إلى بدئه . ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم ، وإن كان لا وارث سواه ، وهذا يدل على فساد تأويلهم ، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه ، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد . / وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد ، وترك الرواية عن عمر وعلي وعبد الله عليهم السلام جانبا ، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب ، أن يجعل ذا الرحم أولى ، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة . وترتيب المواريث في الأصل يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة ، كالأخ للأب والأم ، والأخ للأب ، وابن العم للأب والأم وابن العم للأب ، واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع . قال الله تعالى{[4444]} : { يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين } وولد الولد ، من سفل منهم ومن ارتفع ، يعمهم هذا الاسم ، إلا أن الأقرب منهم ، في معنى الآية ، أحق من الأبعد . فإذا كان ذلك كذلك ، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرب بها دونه .

وبعد ، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة ، إلا فيما روي عن الخليفيتن عمر وعلي صلوات الله عليهما ، وما روي عن ابن مسعود ، ثم لم يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم ، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس ، جد أمير المؤمنين أطال الله بقاءه ، وترجمان القرآن ، وبحر العلم ، ومن كان إذا تكلم سكت الناس ، ومن دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال{[4445]} : " اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل " ، ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم مستجابة . ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب . وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعلي / وعبد الله والجماعة . وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين ، أعزه الله ، يستقضون الحكام ، فيقضون برد المواريث على الأقارب ، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم ، ولا تردونه متجاوزا للحق فيه ، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة . وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف ، واقتدى بخلفاء الله ، ومال إلى أفضل المذهبين ، وإلى الله الرغبة في عصبة الأمير ، وتسديده والحمد لله رب العالمين . انتهى .

ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث ، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في ( كتاب مواريث أهل الملة ) ، وأنه حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم ، رأوا أن يرد على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث ، إذا لم يكن للمتوفى عَصَبة يحوز باقي ميراثه ، وجعلوا رضي الله عنهم ، تركة من يتوفى ولا عَصَبة له لذوي رحمه ، إن لم يكن له وارث سواهم ، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول{[4446]} : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، إن الله بكل شيء عليم } وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة . انتهى .

الثالث – استدل بالآية الإِماميةُ ، على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة ، لاندراجها في عموم الأولوية . والجواب - على فرض صحة هذه الدلالة – أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة ، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من علي رضي الله عنه .


[4438]:أخرجه أبو داو في : 18 كتاب الفرائض، 16 باب نسخ ميراث العقد بميراث الأرحام حديث رقم 2921.
[4439]:أخرجه أبو داود في : 18 كتاب الفرائض، 8 باب في ميراث ذوي الأرحام، حديث رقم 2899 و 2900 عن المقدام الكندي.
[4440]:أخرجه أبو داود في : 17- كتاب الوصايا، 6- باب ما جاء في الوصية للوارث، حديث رقم 2870.
[4441]:8 / سورة الأنفال / 75.
[4442]:أخرجه أبو داود في 18- كتاب الفرائض 8- باب في ميراث ذوي الأرحام حديث رقم 2899 و 2900.
[4443]:8 / الأنفال / 75.
[4444]:4 / النساء / 11.
[4445]:أخرجه البخاري في : 3 – كتاب العلم، 17 باب قول النبي صلى الله عليه وسلم "اللهم علمه الكتاب" ونصه : اللهم! علمه الكتاب. وفي 4- كتاب الوضوء، 10 باب وضع الماء عند الخلاء، ونصه : اللهم فقهه في الدين. وفي : 62- كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 24 باب ذكر ابن عباس، ونصه : اللهم! علمه الحكمة. = وفي : 96 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، ونصه : اللهم علمه الكتاب، والحديث رقم 65. أما النص الذي أورده المؤلف فلم أعثر عليه.
[4446]:8 / الأنفال / 75.