الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

تفسير الإمام مالك 179 هـ :

- ابن عطية: قال مالك رحمه الله: إن الآية ليست في المواريث.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: والذين آمنوا بالله ورسوله من بعد تبياني ما بينت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضا وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر وهاجروا دار الكفر إلى دار الإسلام وجاهدوا معكم أيها المؤمنون، فأولئك منكم في الولاية يجب عليكم لهم من الحقّ والنصرة في الدين والموارثة مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعض...

"وأُلُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ إنّ اللّهَ بِكُلّ شيْءٍ عَلِيمٌ"

يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبا وحظّا من الحليف والوليّ، "فِي كِتاب اللّهِ "يقول: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء. "إنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ "يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب دون الحلف بالعقد، وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{والذين ءامَنُواْ مِن بَعْدُ} يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله: {والذين جَاءوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمان} [الحشر: 10] ألحقهم بهم وجعلهم منهم تفضلاً منه وترغيباً.

{وَأُوْلُو الارحام} أولو القرابات أولى بالتوارث، وهو نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة {فِي كتاب الله} تعالى في حكمه وقسمته. وقيل في اللوح. وقيل في القرآن...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {وجاهدوا معكم} لفظ يقتضي أنهم تبع لا صدر، قوله {فأولئك منكم} كذلك، ونحوه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مولى القوم منهم وابن أخت القوم منهم»، وقوله {وأولو الأرحام} إلى آخر السورة، قال من تقدم ذكره هي في المواريث وهي ناسخة للحكم المتقدم ذكره من أن يرث المهاجري الأنصاري... وقوله {في كتاب الله}، معناه القرآن أي ذلك مثبت في كتاب الله، وقيل المعنى في كتاب الله السابق في اللوح المحفوظ، و {عليم} صفة مناسبة لنفوذ هذه الأحكام

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

المسألة الأولى: اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {من بعد} نقل الواحدي عن ابن عباس: بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل بعد نزول هذه الآية، وقيل: بعد يوم بدر، والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى... المسألة الثانية: الأصح أن الهجرة انقطعت بفتح مكة لأن عنده صارت مكة بلد الإسلام وقال الحسن: الهجرة غير منقطعة أبدا، وأما قوله عليه السلام: «لا هجرة بعد الفتح» فالمراد الهجرة المخصوصة، فإنها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام. {في كتاب الله} المراد منه السهام المذكورة في سورة النساء. ثم قال في ختم السورة: {أن الله بكل شيء عليم} والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب وصلاح، وليس فيها شيء من العبث والباطل، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

وختم السورة بقوله {إنّ الله بكلّ شيء عليم}، في غاية البراعة إذ قد تضمنت أحكاماً كثيرة في مهمّات الدين وقوامه وتفصيلاً لأحوال، فصفة العلم تجمع ذلك كله وتحيط بمبادئه وغاياته.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما حصر المؤمنين حقاً في الموصوفين، بين أن من ترك ما هو عليه من لزوم دار الكفر والقعود عن الجهاد، لحق بمطلق درجتهم وإن كانوا فيها أعلى منه فقال ذاكراً القسم الرابع: {والذين آمنوا} ولما كانوا قد تأخروا عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مدة، أدخل الجار فقال: {من بعد} أي من بعد تأخر إيمانهم عن السابقين {وهاجروا} أي لاحقين للسابقين... {وجاهدوا معكم} أي من تجاهدونه من حزب الشيطان {فأولئك منكم} أي لهم ما لكم وعليهم ما عليكم من المواريث والمغانم وغيرها، لأن الوصف الجامع هو المدار للأحكام وإن تأخرت رتبتهم عنكم كما أفهمته أداة البعد.

ولما بين أنهم منهم، بين أنه متى جمعهم الوصف المحصل للولاية، كان القرب في الرحم أولى من غيره فقال: {وأولو الأرحام} أي من المؤمنين الموصوفين {بعضهم أولى ببعض} أي في الإرث وغيره من المتصفين بولاية الدين الخالية عن الرحم {في كتاب الله} أي القرآن أو في حكمه وقسمه الذي أنزله إليكم الملك الأعظم في آيات الإرث، وهي مقيدة بالعصبات فنسخت الولاية فلا دلالة على توريث غيرهم... ثم علل سبحانه ما ذكر بما يرغب فيه فقال: {إن الله} أي الذي له صفات الكمال كلها {بكل شيء عليم} فهو يعلم أن هذا هو الذي تدور عليه المصلحة وتدوم به الألفة كما علم في أول الأمر أن نوط الإرث وغيره من لوازم القرب بالأخوة الإسلامية أولى لما في ذلك من تكثير قلتكم ونصر ذلتكم وجمع شتاتكم وجعل ما بينكم من الأخوة كلحمة النسب، فأما الآن فقد ضرب الدين بجرانه، وثبت بقواعده وأركانه، وولى الكفر بسلطانه، ونكص مدبراً بأعوانه، فتوارثوا بالإسلام والقرابة وتقاطعوا الكفار، وقربوا وبعدوا، وانحازوا عنهم كما انحازوا عنكم، وتبرؤوا منهم كما تبرؤوا منكم، فقد انطبق آخر السورة بالإعراض عن الدنيا وإصلاح ذات البين وبيان المؤمنين حقاً وتقليد العليم في جميع الأعمال من غير اعتراض -على أولها، وببيان من يوالي ومن يعادي على أول براءة- والله الموفق.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} هذا هو الصنف الرابع من المؤمنين في ذلك العهد وهم من تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى أو عن نزول هذه الآيات فيكون الماضي « آمنوا» وما بعده بمعنى المستقبل، وقيل عن صلح الحديبية، وكان في ذي القعدة سنة ست، والسورة كلها نزلت عقب غزوة بدر، وحكمهم على كل حال أنهم يلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار فيما تقدم بيانه من أحكام ولايتهم وجزائهم...

وأقول إن جعلهم تبعا لهم وعدهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين ولاسيما بعد اختلاف الحالين من قوة وضعف وغنى وفقر وقال تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} [الحديد:10] وقال تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم} [التوبة: 100] وقد بين في سياق قسمة الفيء من سورة الحشر هذه الدرجات الثلاث فقال عز من قائل: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم} [الحشر:8 10] وفضيلة السبق معلومة بالنقل والعقل {والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم} [الواقعة: 10 12]... {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وأولوا الأرحام هم أصحاب القرابة... ويسمى به الأقارب لأنهم في الغالب من رحم واحد. وفي اصطلاح علماء الفرائض هم الذين لا يرثون بفرض ولا تعصيب... والمعنى المتبادر من نص الآية وقرينة السياق أنها في ولاية الرحم والقرابة، بعد بيان ولاية الإيمان والهجرة، فهو عزَّ وجلَّ شأنه يقول: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتناصر والتعاون وكذا التوارث في دار الهجرة في عهد وجوب الهجرة ثم في كل عهد هم أولى بذلك في كتاب الله أي في حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين وأوجب عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذي القربى في هذه الآية وغيرها مما نزل قبلها، وأكده فيما نزل بعدها كآية الأحزاب في معناها وكقوله بعد محرمات النكاح {كتاب الله عليكم} [النساء:24] فهو قد أوجبه في دين الفطرة، كما جعله من مقتضى غرائز الفطرة، فالقريب ذو الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره، ومقدم عليهم في جميع أنواع الولايات المتعلقة بأمره، كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغير ذلك. وهذه الأولوية لا تقتضي عدم التوارث العارض بين المهاجرين والأنصار والمتعاقدين على أن يرث كل منهما الآخر كما كانت تفعل العرب، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب مقدم كما قال تعالى: {وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين} [البقرة: 83] وقال رسوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي من حديث جابر بسند صحيح (ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا) أي فللمستحق من كل جانب.

وهذا موافق لقوله تعالى في وصف أولي الألباب من المؤمنين بالقرآن من سورة الرعد المكية {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} [الرعد: 20]. وعهد الله هنا يشمل جميع ما عهده إلى البشر من التكاليف سواء كانت بلفظ العهد كقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان} [ياسين:60] الآيتين أو بلفظ آخر ومنه {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان [الأعراف:27] وأمثاله من النداء في هذه السورة ومن الوصايا في السورة التي قبلها (الأنعام) كما يشمل ما عاهدوا الله عليه بلفظ العهد أو بدونه، وما يعاهد بعضهم بعضا عليه بشروطه، ومنها أن لا يكون على شيء محرم. ويدخل في العهد العام ما أوجبه من موالاة المؤمنين وحقوقهم، ثم ذكر بعد صفة هؤلاء ما يقابلها من صفات الكافرين الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل، وهو ما ذكر هنا. وقفى عليه بالأمر بصلة الرحم وهو أهم ما أمر الله به أن يوصل. ثم قال تعالى في صفة من يضلون عن هداية القرآن من سورة البقرة المدنية {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون} [البقرة:27] وقد سبق في تفسيرها أن العهد الإلهي قسمان: فطري خلقي، وديني شرعي.

وجملة القول أن أولوية أولي الأرحام بعضهم ببعض هو تفضيل لولايتهم على ما هو أعم منها من ولاية الإيمان وولاية الهجرة في عهدها ولكن في ضمن دائرتهما فالقريب أولى بقريبه ذي رحمه المؤمن المهاجري والأنصاري من المؤمن الأجنبي، وأما قريبه الكافر فإن كان محاربا للمؤمنين فالكفر مع القتال يقطعان له حقوق الرحم كما قال تعالى في سورة الممتحنة: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء} [الممتحنة:1]. وإن كان معاهدا أو ذميا فله من حق البر وحسن العشرة ما ليس لغيره. قال تعالى في الوالدين المشركين: {وإن جاهداك على أن تشرك بما ليس لك به علم فلا تطمعها وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان:15] ثم قال في الكفار عامة {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [الممتحنة:8] فالبر والعدل مشروعان عامان في حدود الشرع، ومحل تفصيل هذا البحث تفسير سورة الممتحنة.

ثم ختم الله تعالى السورة بقوله تعالى: {إن الله بكل شيء عليم} فهو تذييل استئنافي لأحكام هذا السياق الأخير بل لجميع أحكام السورة وحكمها، مبين أنها محكمة لا وجه لنسخها ولا نقضها، فالمعنى أنه تعالى شرع لكم هذه الأحكام في الولاية العامة والخاصة والعهود وصلة الأرحام، وما قبلها مما سبق من أحكام القتال والغنائم وقواعد التشريع وسنن التكوين والاجتماع، وأصول الحكم المتعلقة بالأنفس ومكارم الأخلاق والآداب، عن علم واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدينية والدنيوية. كما قال في السورة السابقة: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم} [الأعراف: 52].

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم يلحق بالطبقة الأولى من المهاجرين المجاهدين، كل من يهاجر بعد ذلك ويجاهد -وإن كانت للسابقين درجتهم كما تقرر النصوص القرآنية الأخرى- إنما هذا إلحاق في الولاء والعضوية في المجتمع الإسلامي:

(والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم)..

ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة؛ حين دانت أرض العرب للإسلام ولقيادته، وانتظم الناس في مجتمعه. فلا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد وعمل. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أن ذلك إنما كان في جولة الإسلام الأولى التي حكم فيها الأرض ألفا ومائتي عام تقريباً؛ لم ينقطع فيها حكم شريعة الإسلام، وقيام القيادة المسلمة على شريعة الله وسلطانه.. فأما اليوم وقد عادت الأرض إلى الجاهلية؛ وارتفع حكم الله -سبحانه- عن حياة الناس في الأرض، وعادت الحاكمية إلى الطاغوت في الأرض كلها، ودخل الناس في عبادة العباد بعد إذ أخرجهم الإسلام منها.. الآن تبدأ جولة جديدة أخرى للإسلام -كالجولة الأولى- تأخذ -في التنظيم- كل أحكامها المرحلية، حتى تنتهي إلى إقامة دار إسلام وهجرة؛ ثم تمتد ظلال الإسلام مرة أخرى -بإذن الله- فلا تعود هجرة ولكن جهاد وعمل؛ كما حدث في الجولة الأولى..

ولقد كانت لفترة البناء الأولى للوجود الإسلامي أحكامها الخاصة، وتكاليفها الخاصة.. قام الولاء في العقيدة مقام الولاء في الدم، في كل صوره وأشكاله، وفي كل التزاماته ومقتضياته. بما في ذلك الإرث والتكافل في الديات والمغارم.. فلما أن استقر الوجود الإسلامي بيوم الفرقان في بدر عدلت أحكام تلك الفترة الاستثنائية، اللازمة لعملية البناء الأولى، المواجهة لتكاليفها الاستثنائية. وكان من هذه التعديلات عودة التوارث والتكافل في الديات وغيرها إلى القرابة -ولكنه في إطار المجتمع المسلم في دار الإسلام:

(وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله..)

فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للإسلام، من أولوية ذوي القربى في داخل الإطار العام.. إن هذا يلبي جانباً فطرياً في النفس الإنسانية. ولا ضرر من تلبية المشاعر الفطرية في النفس الإنسانية، ما دام أن ليس هناك ما يعارض هذه المشاعر من تكاليف الوجود الإسلامي.. إن الإسلام لا يحطم المشاعر الفطرية؛ ولكنه يضبطها. يضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا للوجود الإسلامي؛ فمتى انقضت هذه الحاجات عاد يلبيها- في إطاره العام. ومن ثم تكون لبعض الفترات الاستثنائية في الحركة تكاليفها الخاصة، التي ليست واردة في الأحكام النهائية للإسلام، التي تحكم المجتمع الإسلامي المستقر الآمن في حياته العادية.. وكذلك ينبغي أن نفقه تكاليف مرحلة البناء الأولى؛ وطبيعة الإسلام العامة وأحكامه الأخرى..

إن الله بكل شيء عليم..

وهو التعقيب المناسب على هذه الأحكام والتنظيمات والمشاعر، وتداخلها وتنظيمها وتنسيقها. فهي من العلم المحيط بكل شيء. علم الله تعالى..

وبعد فإن الإسلام -وهو يبني الأمة المسلمة على هذه القاعدة وفق هذا المنهج؛ ويقيم وجودها على أساس التجمع العضوي الحركي؛ ويجعل آصرة هذا التجمع هي العقيدة- إنما كان يستهدف إبراز "إنسانية الإنسان "وتقويتها وتمكينها، وإعلاءها على جميع الجوانب الأخرى في الكائن الإنساني. وكان يمضي في هذا على منهجه المطرد في كل قواعده وتعليماته وشرائعه وأحكامه..

إن الكائن الإنساني يشترك مع الكائنات الحيوانية -بل الكائنات المادية- في صفات توهم أصحاب "الجهالة العلمية!" مرة بأنه حيوان كسائر الحيوان؛ ومرة بأنه مادة كسائر المواد! ولكن الإنسان مع اشتراكه في هذه "الصفات" مع الحيوان ومع المادة له "خصائص" تميزه وتفرده؛ وتجعل منه كائناً فريداً -كما اضطر أصحاب "الجهالة العلمية!" أخيراً أن يعترفوا والحقائق الواقعة تلوي أعناقهم ليا، فيضطرون لهذا الاعتراف في غير إخلاص ولا صراحة!

والإسلام- بمنهجه الرباني -يعمد إلى هذه الخصائص التي تميز "الإنسان" وتفرده بين الخلائق؛ فيبرزها وينميها ويعليها.. وهو حين يجعل آصرة العقيدة هي قاعدة التجمع العضوي الحركي، التي يقيم على أساسها وجود الأمة المسلمة، إنما يمضي على خطته تلك. فالعقيدة تتعلق بأعلى ما في "الإنسان" من "خصائص"..

إنه لا يجعل هذه الآصرة هي النسب، ولا اللغة، ولا الأرض، ولا الجنس، ولا اللون، ولا المصالح، ولا المصير الأرضي المشترك.. فهذه كلها أواصر يشترك فيها الحيوان مع الإنسان. وهي أشبه شيء وأقرب شيء إلى أواصر القطيع، وإلى اهتمامات القطيع، وإلى الحظيرة والمرعى والثغاء الذي يتفاهم به القطيع! أما العقيدة التي تفسر للإنسان وجوده، ووجود هذا الكون من حوله تفسيراً كلياً؛ كما تفسر له منشأ وجوده ووجود الكون من حوله، ومصيره ومصير الكون من حوله؛ وترده إلى كائن أعلى من هذه المادة وأكبر وأسبق وأبقى، فهي أمر آخر يتعلق بروحه وإدراكه المميز له من سائر الخلائق، والذي ينفرد به عن سائر الخلائق؛ والذي يقرر" إنسانيته "في أعلى مراتبها؛ حيث يخلف وراءه سائر الخلائق.

ثم إن هذه الآصرة- آصرة العقيدة والتصور والفكرة والمنهج -هي آصرة حرة؛ يملك الفرد الإنساني اختيارها بمحض إرادته الواعية. فأما أواصر القطيع تلك فهي مفروضة عليه فرضاً، لم يخترها ولا حيلة له كذلك فيها.. إنه لا يملك تغيير نسبه الذي نماه؛ ولا تغيير الجنس الذي تسلسل منه؛ ولا تغيير اللون الذي ولد به. فهذه كلها أمور قد تقررت في حياته قبل أن يولد، لم يكن له فيها اختيار، ولا يملك فيها حيلة.. كذلك مولده في أرض بعينها، ونطقه بلغة بعينها بحكم هذا المولد، وارتباطه بمصالح مادية معينة ومصير أرضي معين- ما دامت هذه هي أواصر تجمعه مع غيره -كلها مسائل عسيرة التغيير؛ ومجال" الإرادة الحرة "فيها محدود.. ومن أجل هذا كله لا يجعلها الإسلام هي آصرة التجمع الإنساني.. فأما العقيدة والتصور والفكرة والمنهج، فهي مفتوحة دائماً للاختيار الإنساني، ويملك في كل لحظة أن يعلن فيها اختياره؛ وأن يقرر التجمع الذي يريد أن ينتمي إليه بكامل حريته؛ فلا يقيده في هذه الحالة قيد من لونه أو لغته أو جنسه أو نسبه، أو الأرض التي ولد فيها، أو المصالح المادية التي تتحول بتحول التجمع الذي يريده ويختاره.

.. وهنا كرامة الإنسان في التصور الإسلامي..

ولقد كان من النتائج الواقعية الباهرة للمنهج الإسلامي في هذه القضية؛ ولإقامة التجمع الإسلامي على آصرة العقيدة وحدها، دون أواصر الجنس والأرض واللون واللغة والمصالح الأرضية القريبة والحدود الإقليمية السخيفة! ولإبراز" خصائص الإنسان "في هذا التجمع وتنميتها وإعلائها، دون الصفات المشتركة بينه وبين الحيوان.. كان من النتائج الواقعية الباهرة لهذا المنهج أن أصبح المجتمع المسلم مجتمعاً مفتوحاً لجميع الأجناس والأقوام والألوان واللغات، بلا عائق من هذه العوائق الحيوانية السخيفة! وأن صبت في بوتقة المجتمع الإسلامي خصائص الأجناس البشرية وكفاياتها؛ وانصهرت في هذه البوتقة وتمازجت؛ وأنشأت مركباً عضوياً فائقاً في فترة تعد نسبياً قصيرة؛ وصنعت هذه الكتلة العجيبة المتجانسة المتناسقة حضارة رائعة ضخمة تحوي خلاصة الطاقة البشرية في زمانها مجتمعة. على بعد المسافات وبطء طرق الاتصال في ذلك الزمان.

لقد اجتمع في المجتمع الإسلامي المتفوق: العربي والفارسي والشامي والمصري والمغربي والتركي والصيني والهندي والروماني والإغريقي والأندونسي والإفريقي... إلى آخر الأقوام والأجناس. وتجمعت خصائصهم كلها لتعمل متمازجة متعاونة متناسقة في بناء المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية. ولم تكن هذه الحضارة الضخمة يوماً ما" عربية "إنما كانت دائماً" إسلامية". ولم تكن يوماً ما "قومية" إنما كانت دائماً "عقيدية"..

ولقد اجتمعوا كلهم على قدم المساواة، وبآصرة الحب، وبشعور التطلع إلى وجهة واحدة.. فبذلوا جميعاً أقصى كفاياتهم، وأبرزوا أعمق خصائص أجناسهم؛ وصبوا خلاصة تجاربهم الشخصية والقومية التاريخية في بناء هذا المجتمع الواحد الذي ينتسبون إليه جميعاً على قدم المساواة؛ وتجمع فيه بينهم آصرة تتعلق بربهم الواحد؛ وتبرز فيها" إنسانيتهم "وحدها بلا عائق.. وهذا ما لم يتجمع قط لأي تجمع آخر على مدار التاريخ!..

لقد كان أشهر تجمع بشري في التاريخ القديم هو تجمع الإمبراطورية الرومانية مثلاً. فقد ضمت بالفعل أجناساً متعددة؛ ولغات متعددة، وأرضين متعددة... ولكن هذا كله لم يقم على آصرة" إنسانية "ولم يتمثل في قيمة عليا كالعقيدة.. لقد كان هناك تجمع طبقي على أساس طبقة الأشراف وطبقة العبيد في الإمبراطورية كلها من ناحية، وتجمع عنصري على أساس سيادة الجنس الروماني- بصفة عامة -وعبودية سائر الأجناس الأخرى.. ومن ثم لم يرتفع قط إلى أفق التجمع الإسلامي؛ ولم يؤت الثمار التي آتاها التجمع الإسلامي.

كذلك قامت في التاريخ الحديث تجمعات أخرى.. تجمع الإمبراطورية البريطانية مثلاً.. ولكنه كان كالتجمع الروماني الذي هو وريثه! تجمعاً قومياً استغلالياً؛ يقوم على أساس سيادة القومية الإنجليزية، واستغلال المستعمرات التي تضمها الإمبراطورية.. ومثله الإمبراطوريات الأوربية كلها: الإمبراطورية الأسبانية والبرتغالية في وقت ما، والإمبراطورية الفرنسية.. وكلها في ذلك المستوى الهابط البشع المقيت!

وأرادت الشيوعية أن تقيم تجمعاً من نوع آخر، يتخطى حواجز الجنس والقوم والأرض واللغة واللون. ولكنها لم تقمه على قاعدة" إنسانية "عامة. إنما أقامته على القاعدة" الطبقية".. فكان هذا التجمع هو الوجه الآخر للتجمع الروماني القديم.. هذا تجمع على قاعدة طبقة "الأشراف"؛ وذلك تجمع على قاعدة طبقة "الصعاليك" [البروليتريا] والعاطفة التي تسوده هي عاطفة الحقد الأسود على سائر الطبقات الأخرى!

وما كان لمثل هذا التجمع الصغير أن يثمر إلا أسوأ ما في الكائن الإنساني.. فهو ابتداء قائم على أساس إبراز الصفات الحيوانية وحدها وتنميتها وتمكينها باعتبار أن "المطالب الأساسية" للإنسان هي "الطعام والمسكن والجنس"- وهي مطالب الحيوان الأولية -وباعتبار أن تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام!!!

لقد تفرد الإسلام بمنهجه الرباني في إبراز أخص خصائص الإنسان وتنميتها وإعلائها في بناء المجتمع الإنساني.. وما يزال مفرداً.. والذين يعدلون عنه إلى أي منهج آخر، يقوم على أية قاعدة أخرى من القوم أو الجنس أو الأرض أو الطبقة.. إلى آخر هذا النتن السخيف هم أعداء الإنسان حقاً! هم الذين لا يريدون لهذا الإنسان أن يتفرد في هذا الكون بخصائصه العليا كما فطره الله؛ ولا يريدون لمجتمعه أن ينتفع بأقصى كفايات أجناسه وخصائصها وتجاربها في امتزاج وتناسق.. وهم في الوقت ذاته يسبحون ضد التيار؛ ويعملون ضد خط الصعود الإنساني؛ ليعودوا بالإنسان إلى التجمع على مثل ما تتجمع عليه "البهائم" من الحظيرة والكلأ! بعد أن رفعه الله إلى ذلك المقام الكريم الذي يتجمع فيه على ما يليق أن تتجمع عليه "الناس "!

وأعجب العجب أن يسمى التجمع على خصائص الإنسان العليا تعصباً وجموداً ورجعية، وأن يسمى التجمع على مثل خصائص الحيوان تقدماً ورقياً ونهضة؛ وأن تقلب القيم والاعتبارات كلها؛ لا لشيء إلا للهروب من التجمع على أساس العقيدة.. خصيصة الإنسان العليا..

ولكن الله غالب على أمره.. وهذه الانتكاسات الحيوانية الجاهلية في حياة البشرية لن يكتب لها البقاء.. وسيكون ما يريده الله حتماً.. وستحاول البشرية ذات يوم أن تقيم تجمعاتها على القاعدة التي كرم الله الإنسان بها. والتي تجمع عليها المجتمع المسلم الأول فكان له تفرده التاريخي الفائق. وستبقى صورة هذا المجتمع تلوح على الأفق، تتطلع إليها البشرية وهي تحاول مرة أخرى أن ترقى في الطريق الصاعد إلى ذلك المرتقى السامي الذي بلغت إليه في يوم من الأيام..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

{ {والذين ءامنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}

بعد أن منع الله ولاية المسلمين للذين آمنوا ولم يهجروا بالصراحة، ابتداءً ونفى عن الذين لم يهاجروا تحقيق الإيمان، وكان ذلك مثيراً في نفوس السامعين أن يتساءلوا هل لأولئك تمكن من تدارك أمرهم بِرأبِ هذه الثَّلمة عنهم، ففتح الله باب التدارك بهذه الآية: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم}.

فكانت هذه الآية بياناً، وكان مقتضى الظاهر أن تكون مفصولة غير معطوفة، ولكن عدل عن الفصل إلى العطف تغليباً لمقام التقسيم الذي استوعبته هذه الآيات.

ودخول الفاء على الخبر وهو {فأولئك منكم} لتضمين الموصول معنى الشرط من جهة أنّه جاء كالجواب عن سؤال السائِل، فكأنّه قيل: وأمّا الذين آمنوا من بعد وهاجروا الخ، أي: مهما يكن من حال الذين آمنوا ولم يهاجروا، ومن حال الذين آمنوا وهاجروا والذين آووا ونصروا، ف {الذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} وبذلك صار فعل {آمنوا} تمهيداً لما بعده من {هاجروا وجاهدوا} لأن قوله: {من بعد} قرينة على أنّ المراد: إذا حصل منهم ما لم يكن حاصلاً في وقت نزول الآيات السابقة، ليكون أصحاب هذه الصلة قسماً مغايراً للأقسام السابقة. فليس المعنى أنّهم آمنوا من بعد نزول هذه الآية، لأنّ الذين لم يكونوا مؤمنين ثم يؤمنون من بعد لا حاجة إلى بيان حكم الاعتداد بإيمانهم، فإنّ من المعلوم أنّ الإسلام يجُبُّ ما قبَله، وإنّما المقصود: بيان أنّهم إن تداركوا أمرهم بأن هاجروا قُبلوا وصاروا من المؤمنين المهاجرين، فيتعيّن أنّ المضاف إليه المحذوفَ الذي يشير إليه بناء {بعدُ} على الضمّ أن تقديره: من بعد ما قلناه في الآيات السابقة، وإلاّ صار هذا الكلام إعادة لبعض ما تقدّم، وبذلك تسقط الاحتمالات التي تردّد فيها بعض المفسّرين في تقدير ما أضيف إليه (بعد).

وفي قوله: {معكم} إيذان بأنّهم دُون المخاطبين الذين لم يستقرّوا بدار الكفر بعد أن هاجر منها المؤمنون، وأنّهم فرطوا في الجهاد مدة.

والإتيان باسم الإشارة للذين آمنوا من بعدُ وهاجروا، دون الضمير، للاعتناء بالخبر وتمييزهم بذلك الحكم.

و« من» في قوله: {منكم} تبعيضية، ويعتبر الضمير المجرور بمن، جماعة المهاجرين أي فقد صاروا منكم، أي من جماعتكم وبذلك يعلم أنّ ولايتهم للمسلمين.

{وَأُوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ}.

قال جمهور المفسّرين قوله: {فأولئك منكم} أي مثلكم في النصر والموالاة، قال مالك: إنّ الآية ليست في المواريث، وقال أبو بكر بن العربي: قوله: {فأولئك منكم} « يعني في الموالاة والميراث على اختلاف الأقوال، أي اختلاف القائلين في أنّ المهاجر يرث الأنصاري والعكس، وهو قول فرقة.

وقالوا: إنّها نسخت بآية المواريث.

عطف جملة على جملة فلا يقتضي اتّحاداً بين المعطوفة والمعطوف عليها، ولكن وقوع هذه الآية بإثر التقاسيم يؤذن بأنّ لها حظّاً في إتمام التقسيم، وقد جعلت في المصاحف مع التي قبلها آية واحدة.

فيظهر أنّ التقاسيم السابقة لمّا أثبتت ولاية بين المؤمنين، ونفت ولايةً من بينهم وبين الكافرين، ومِن بينهم وبين الذين آمنوا ولم يهاجروا حتّى يهاجروا، ثم عادت على الذين يهاجرون من المؤمنين بعد تقاعسهم عن الهجرة بالبقاء في دَار الكفر مدّة، فبيّنت أنّهم إن تداركوا أمرهم وهاجروا يدخلون بذلك في ولاية المسلمين، وكان ذلك قد يشغل السامعين عن وَلاية ذوي أرحامهم من المسلمين، جاءت هذه الآية تذكّر بأنّ ولاية الأرحام قائمة وأنّها مرجّحة لغيرها من الولاية فموقعها كموقع الشروط، وشأن الصفات والغايات بعد الجُمل المتعاطفة أنّها تعود إلى جميع تلك الجمل، وعلى هذا الوجه لا تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضته الآيات قبلها من الولاية بين المهاجرين والأنصار بل مقيّدةً الإطلاقَ الذي فيها.

وظاهر لفظ {الأرحام} جَمْعُ رَحِم وهو مقّر الولد في بطن أمّه، فمن العلماء من أبقاه على ظاهره في اللغة، فجعل المراد من أولي الأرحام ذوي القرابة الناشئة عن الأمومة، وهو ما درج عليه جمهور المفسّرين، ومنهم من جعل المراد من الأرحام العصابات دون المولودين بالرحم...

وعُلم من قوله: {أولى} هو صيغة تفضيل أنّ الولاية بين ذوي الأرحام لا تعتبر إلا بالنسبة لمحلّ الولاية الشرعية فأولوا الأرحام أوْلى بالولاية ممّن ثبتت لهم ولاية تامّة أو ناقصة كالذين آمنوا ولم يهاجروا في ولاية النصر في الدين إذا لم يقم دونها مانع من كفر أو ترك هجرة، فالمؤمنون بعضهم لبعض أولياء ولاية الإيمان، وأولو الأرحام منهم بعضهم لبعض أولياء ولايةَ النسب، ولولاية الإسلام حقوق مبيّنة بالكتاب والسنّة، ولولاية الأرحام حقوق مبيّنة أيضاً، بحيث لا تُزاحم إحدى الولايتين الأخرى، والاعتناءُ بهذا البيان مؤذن بما لوشائج الأرحام من الاعتبار في نظر الشريعة، فلذلك عَلقت أولوية الأرحام بأنّها كائنة في كتاب الله أي في حكمه.

وكتابُ الله قضاؤه وشرعه، وهو مصدر، إمّا باق على معنى المصدرية، أو هو بمعنى المفعول، أي مكتوبة كقول الراعي:

كانَ كتابُها مفعولاً

وجَعْلُ تلك الأولوية كائنة في كتاب الله كنايةٌ عن عدم تعبيره، ا لأنّهم كانوا إذا أرادوا توكيد عهد كتبوه

...فتقييد أولوية أولي الأرحام بأنّها في كتاب الله للدلالة على أنّ ذلك حكم فطري قدّره الله وأثبته بما وضع في الناس من الميل إلى قراباتهم، كما ورد في الحديث: « إن الله لما خلق الرحِمَ أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت: هذا مقام العائذِ بك من القَطيعة» الحديثَ. فلمّا كانت ولاية الأرحام أمراً مقرراً في الفطرة، ولم تكن ولاية الدين معروفة في الجاهلية بيّن الله أنّ ولاية الدين لا تُبطل ولاية الرحم إلاّ إذا تعارضتا، لأنّ أواصر العقيدة والرأي أقوى من أواصر الجسد، فلا يغيّره ما ورد هنا من أحكام ولاية الناس بعضهم بعضاً، وبذلك الاعتبار الأصلي لولاية ذوي الأرحام كانوا مقدمين على أهل الولاية، حيث تكون الولاية، وينتفي التفضيل بانتفاء أصلها، فلا ولاية لأولي الأرحام إذا كانوا غير مسلمين.

... وقد علمت ممَّا تقدّم كلّه أنّ في هذه الآيات غموضاً جعلها مرامي لمختلف الأفهام والأقوال. وأيَّامّاً كانت فقد جاء بعدها من القرآن والسنة ما أغنى عن زيادة البسط.

وقوله: {إن الله بكل شيء عليم} تذييل هو مؤذن بالتعليل؛ لتقرير أوْلويّة ذوي الأرحام بعضهم ببعض فيما فيه اعتداد بالولاية، أي إنّما اعتبرت تلك الأولويّة في الولاية، لأنّ الله قد علم أنّ لآصرة الرحم حقّاً في الولاية هو ثابت ما لم يمانعه مانع معتبر في الشرع، لأنّ الله بكلّ شيء عليم وهذا الحكم ممّا علم، الله أنّ إثباته رفق ورأفة بالأمّة.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

هذا شأن المهاجرين الذين آمنوا والذين آووا ونصروا، وقد ذكر بعد ذلك شأن الذين يهاجرون ويؤمنون من بعد، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

باب الإيمان مفتوح، وباب الهجرة مفتوح، وميدان الجهاد متسع للجميع، فلم يغلق على المجاهدين الأولين، ويحكم الرتاج على من بعدهم، لا بل هو مفتوح وهذه الآية الكريمة تلحق الذين يؤمنون كمن بعد ويهاجرون بالأولين الذين هم المؤمنون حقا، ولهم مغفرة ورزق كريم.

يقول تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ}، أي من بعد نزول الآيات الكريمات، ويفعلون فعل من سبقوهم فيهاجرون ويجاهدون معكم لا فرق بينكم وبينهم في الميدان فأولئك منكم، ومثل هؤلاء أبو موسى الأشعري، ومن معه من الأشعريين؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ}، أي أولئك يصيرون جزءا منكم لهم حكمكم، ولهم ثناؤكم، لا تعلون عليهم لأنهم منكم، فالمهاجر الأول والذين آووا ونصروا لهم فضلهم، ويلحق بهم في الفضل والثناء والجزاء من آمنوا من بعد وأبلوا مثل بلائهم، ولم يختلفوا عنهم في الفضل وإن تخلفوا في الزمن، وهو لا حساب فيه عند الله ما دام الإيمان والجهاد والهجرة قد تحقق فيهم.

هذا ولاء المؤمنين بعضهم مع بعض، وكهدى القرآن لا يمحوا ولاء الفطرة ولا يمحوا الولاء العام، ولاء الأسرة لأنه يدعمه ويقويه، ولذلك جاء ولاء الأسرة بعد الولاء العام، فقد قال تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.

أي في حكم كتاب الله تعالى، ومقررات الإسلام الثابتة، فالأسرة لا تفنى بجوار الإيمان ولكن تقوي دعائم المجتمع الإسلامي.

ختام السورة:

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

خلاصة سورة الأنفال:

(أي ما فيها من الأصول الاعتقادية، والسنن الاجتماعية، وقواعد الشرع العملية، من سياسية وحربية، ونجمل ذلك في سبعة أبواب قد يدخل بعض أصولها ومسائلها في بعض فيذكر في كل باب بما يناسبه).

مقدمة للتنبيه وللتذكير

ينبغي أن يتذكر القارئ أن جل السور المكية في أصول الإيمان الاعتقادية من الإلهيات والوحي والرسالة والبعث والجزاء وغيرهما من عالم الغيب، وقصص الرسل مع أقوامهم. ويلي ذلك فيها أصول التشريع الإجمالية العامة، والآداب والفضائل الثابتة، كما بيناه في خلاصة كل من سورتي الأنعام والأعراف، ويتخلل هذا أو ذاك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم، وإبطال ضلالاتهم، وتشويه خرافاتهم.

وأما السور المدنية فتكثر فيها قواعد الشرع التفصيلية، وأحكام الفروع العملية، بدلا من أصول العقائد الإيمانية، وقواعد التشريع العامة المجملة، كما تكثر في بعضها محاجة أهل الكتاب وبيان ما ضلوا فيه عن هداية كتبهم ورسلهم، ودعوتهم إلى الإيمان بخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وفي بعضها بيان ضلالة المنافقين ومفاسدهم كما يرى القارئ للسور المدنية الطول الأربع المتقدمة، وكل من هذا وذاك يقابل ما في السور المكية من بيان بطلان الشرك وغواية أهله.

في سورة البقرة تكثر محاجة اليهود وفي سورة آل عمران تكثر محاجة النصارى، وفي سورة المائدة تكثر محاجة الفريقين، وفي سورة النساء تكثر الأحكام المتعلقة بالمنافقين، ويليها في فضائح المنافقين سورة التوبة الآتية. وتكثر في هذه السور الثلاث أحكام القتال، كما تكثر في هذه السورة (سورة الأنفال).

الباب الأول

في صفات الله تعالى وشؤونه

في خلقه وحقوقه وحكمه في عباده،

وفيه ستة فصول

الفصل الأول: في الأسماء والصفات الإلهية

الأسماء والصفات

في هذه السورة من أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: العزيز الحكيم، والعليم الحكيم، والسميع العليم، والغفور الرحيم، والمولى والنصير، والبصير، والقدير، والعليم بذات الصدور، وختمت السورة بقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم}. وكل اسم من هذه الأسماء وغيرها يذكر في القرآن مفردا أو مقترنا بغيره في المكان المناسب للموضوع الذي ورد فيه ويفسر في موضعه ومفسرو المذاهب الكلامية وغيرها يتأولون بعضها كما تقدم في تفسير سورة الفاتحة من تأويلهم لصفة الرحمة، وبينا فيه وفي غيره مذهب السلف في إمرار هذه الصفات كما وردت من غير تكلف تأويل لها يخرجها عن الظاهر المتبادر من السياق، مع الجزم بتنزيهه تعالى فيها عن شبه أحد من خلقه، وما للخلف من التأويلات التي حملهم عليها محاولة التفصي من التشبيه، وتحقيق الحق في كل مقام بما يناسبه مع الجمع بين إثبات النصوص والتنزيه. وقد نذكر بعض التأويلات للضرورة.

المعية الإلهية والعندية

مما تكرر ذكره في هذه السورة إثبات إضافة المعية إليه تعالى أي كونه مع من شاء من عباده وهي مما ورد تأويله عن بعض علماء السلف واتفق عليه متكلمو الخلف، وقد بينا هنا كما بينا من قبل تحقيق قاعدة السلف فيها وتراها في آيات من هذه السورة أولها {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال:12] أي: أني أعينكم على تنفيذ ما آمركم به من تثبيتكم والربط على قلوبهم حتى لا يفروا من أعدائهم على كونهم يفوقوهم عددا وعددا ومددا إعانة حاضر معكم لا يخفى عليه ولا يعجزه شيء من إعانتكم. والوعد بالإعانة وحده لا يفيد هذا المعنى كله ففي المعية معنى زائد على أصل الإعانة نعقل منه ما ذكر ولا نعقل كنهه وصفته.

وفي معناها قوله تعالى في بيان أن كثرة العدد وحدها لا تقتضي النصر في الحرب بل هنالك قوة معنوية إلهية قد ينصر بها الفئة القليلة على الكثيرة {ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين} [الأنفال:19] وقوله عزَّ وجلَّ بعد الأمر بأسباب النصر المعنوية كالثبات في القتال وذكره وطاعته وطاعة رسوله والنهي عن التنازع {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46]. ومثله قوله بعد جعل المؤمنين حقيقين بالنصر على عشرة أضعافهم من المشركين في حال القوة والعزيمة وعلى مثليهم في حال الضعف والرخصة بشروطه {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 66] وهذه المعية يعبر عنها في هذا المقام بمعية النصر. وقد بينا ما تسمى به في مقامات أخرى من الصبر في غير القتال يطلب كل منها في محله.

ويناسب المعية ما ورد في العندية كقوله تعالى: {لهم درجات عند ربهم} [الأنفال: 4] وهي إما عندية مكان كهذه الآية والمراد بالمكان هنا الجنة كقوله تعالى حكاية عن امرأة فرعون {إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة} [التحريم: 11] وإضافته إلى الرب تعالى للتشريف والتكريم كما قال المفسرون، وإما عندية تدبير وتصرف كقوله في هذه السورة {وما النصر إلا من عند الله} [الأنفال: 10] وإما عندية حكم كقوله تعالى في أهل الإفك من سورة النور {فأولئك عند الله هم الكاذبون} [النور: 13] أي حكم شرعه.

ولايته تعالى للمؤمنين

وهي بمعنى معيته لهم. قال: {وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} [الأنفال:40] فتسمى هنا ولاية النصرة وهي أعم. وتقدم تفصيل القول في الولاية العامة والخاصة في تفسير {الله ولي الذين آمنوا} [البقرة: 257] فتراجع في (ج 3).

الفصل الثاني: في أفعاله وتصرفه تعالى

في عباده وتدبيره لأمور البشر وفي تشريعه لهم

تصرفه في عباده

يدخل في هذا الباب أفعاله التي لا كسب للناس فيها وتصرفه فيهم بالأسباب والمسببات والمقدمات والنتائج وإرادته في تسخيرهم في أعمالهم. قال عزَّ وجلَّ: {كما أخرج ربك من بيتك بالحق} [الأنفال: 5] {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين} [الأنفال:7] {ليحق الحق ويبطل الباطل} [الأنفال:8] الخ {وما النصر إلا من عند الله} [الأنفال:10] {وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} [الأنفال:11] {سألقي قي قلوب الذين كفروا الرعب} [الأنفال:12] {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال:17] إلى قوله في الآية 19 {وأن الله مع المؤمنين} {ولوا علم الله فيهم خيرا لأسمعهم} [الأنفال: 23] {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال: 53] {فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون} [الأنفال:26] {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الأنفال:29] {ويمكرون والله خير الماكرين} [الأنفال: 30] {ليميز الخبيث من الطيب} [الأنفال: 37] {إذ يريكهم في منامك قليلا} [الأنفال:43] {وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم} [الأنفال: 44] {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الأنفال: 53] {وهو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم} [الأنفال: 63] الخ.

وقد بينا في تفسير كل آية من هذه الآيات ما للعبد مما أسند إليه وما للرب مما أسند إليه عزَّ وجلَّ وما في بعضها من شبهة يحتج بها على عقيدة الجبر ووجه إبطالها بما لا يجد القارئ له نظيرا في شيء من كتب التفسير وشروح الأحاديث ولا في كتب الكلام فيما رأيناه منها وما يقاس عليه من أمثالها.

التشريع الديني

هو حقه ومقتضى ربوبيته عزَّ وجلَّ ففي الآية الأولى من هذه السورة {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول} معناه أن الحكم فيها هو حق الله تعالى، وأما الذي لرسوله صلى الله عليه وسلم فهو تنفيذ الحكم وقسمة الغنائم، ودليله أن الله تعالى بين حكمها في قوله: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} [الأنفال:41] الخ وتفسيره في أول الجزء العاشر، وما ورد من مؤاخذة المؤمنين على أخذ الفدية من أسرى بدر قبل إذن الله تعالى لهم بذلك في قوله تعالى: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى] [الأنفال:67] الخ مع أنه صلى الله عليه وسلم وافقهم على ذلك وقد ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إنما أنا قاسم وخازن والله يعطي) وفي أثناء حديث للبخاري (والله المعطي وأنا القاسم).

وقسمته صلى الله عليه وسلم للغنائم وغيرها مفوضة إلى اجتهاده فيما لا نص فيه من كتاب الله تعالى مع فرض العدل عليه. فالتشريع الديني الذي لا يتغير فيها هو حق الخمس وقد بينا تفصيله في أول الجزء العاشر. وما عدا ذلك من أموال الحرب فهو اجتهادي يقسمه الإمام الأعظم بمشاورة أهل الحل والعقد، على وفق المصلحة وأساس العدل، كما فعل عمر رضي الله عنه في تدوين الدواوين.

الفصل الثالث:

في تعليل أفعاله وأحكامه تعالى بمصالح الخلق:

ورد في هذه السورة تعليل وعده تعالى للمؤمنين إحدى الطائفتين من المشركين بقوله: {ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ليحق الحق ويبطل الباطل} [الأنفال:7 8].

وتعليله وعده للمؤمنين بإمدادهم إياهم بالملائكة بقوله: {وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبهم} [الأنفال:10].

وتعليله تغشيهم النعاس وإنزال المطر عليهم بقوله: {إذ يغشيهم النعاس أمنة منه} [الأنفال:11] الخ.

وتعليله تمكينهم من قتل المشركين ببدر وإيصاله تعالى ما رمى به الرسول الكافرين إلى أعينهم بقوله: {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} إلى قوله {موهن كيد الكافرين} [الأنفال:17 18].

وتعليله ما كتبه من النصر لأتباع الرسل من المؤمنين الصادقين والخذلان لأعدائهم الكافرين بقوله {ليميز الله الخبيث من الطيب] [الأنفال:37].

وتعليله لما قدره وأنفذه من لقائهم المشركين على غير موعد بقوله: {ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة} [الأنفال:42].

ثم تعليله لإراءته تعالى رسوله المشركين في منامه قليلا بقوله {ولو أراكم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر} [الأنفال:43]

ثم تعليله لإرائته تعالى المؤمنين عند التقائهم بالمشركين أنهم قليل وتقليله إياهم في أعين المشركين بقوله: {ليقضي الله أمرا كان مفعولا} [الأنفال: 44].

ثم تعليله لمؤاخذة قريش على كفرهم لنعمه ببيان سنته في أعمالهم وهي قوله: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الأنفال:53].

وكذا تعليله لما أوجبه من ولاية المؤمنين بعضهم لبعض في النصرة في مقابلة ولاية الكافرين بعضهم لبعض بقوله: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [لأنفال:73].

الباب الثاني:

في الحقوق والأحكام:

والكرامة الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه فصلان

تنبيه: لما كان موضوع سورتي الأنعام والأعراف المكيتين كأمثالهما من السور المكية الطويلة تبليغ الدعوة العامة للمشركين المنكرين للرسالة والوحي أولا وبالذات، كثرت فيهما الآيات في الرسالة العامة، ووظائف الرسل، وإثبات الوحي، ودفع شبهات المشركين عليه وعلى الرسل، وفي رسالة خاتم النبيين خاصة وعموم بعثته، وما هو دين وتشريع من أقواله وأفعاله وما ليس كذلك (راجع ج 9).

ولما كان الخطاب في هذه السورة المدنية موجها إلى المؤمنين كثر فيها ما هو خاص به صلى الله عليه وسلم من إيجاب طاعته في كل ما يأمر به من أمر الدين والتشريع، والنهي عن عصيانه وخيانته، وغير ذلك من حقوقه صلى الله عليه وسلم ومن عنايته تعالى به وتكريمه له.

الفصل الأول: في عناية الله تعالى برسوله

من كفايته وتشريفه إياه واستعماله فيما تتم به حكمته

وفيه تسعة أصول:

الأصل الأول: كفايته تعالى إياه مكر مشركي قريش به في مكة وائتمارهم لحبسه إلى آخر حياته، أو نفيه من بلده، أو قتله بتقطيع فتيان من جميع بطون قريش له لإضاعة دمه، وكان ذلك سبب هجرته صلى الله عليه وسلم. وذلك قوله عزَّ وجلَّ: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} إلى قوله تعالى: {والله خير الماكرين} [الأنفال:20].

الأصل الثاني: إحساب الله تعالى له أي كفايته التامة حتى يقول « حسبي» في موقعين (أحدهما): مقيد بحال مخصوصة وهي كفايته خداع من يريدون من الكفار بإظهارهم الجنوح للسلم وتأييده بنصره وبالمؤمنين في الآية 62 (والثاني): مطلق وهو كفايته إياه هو ومن اتبعه من المؤمنين الذين ذكر أنه أيده بهم وهو نص الآية 64.

الأصل الثالث: عنايته تعالى به وتوفيقه إياه لتربية المؤمنين في قوله: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون} [الأنفال:5] وهذه هي التي ترتب عليها ما في الفصل التالي من الأحكام التكليفية المناسبة لما قبلها من وجوب الطاعة وحظر العصيان والخيانة له صلى الله عليه وسلم.

الأصل الرابع: استعماله تعالى إياه برميه لوجوه الكفار ببدر بقبضة من التراب والرمل أصاب الله تعالى بها وجوههم كلهم وفيها قال تعالى: {وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] فراجع تفسيرها في ج 9. وكان هذا من آيات الله الكونية له صلى الله عليه وسلم. وهذه الآيات كانت كثيرة وهي من جنس آيات الله تعالى لموسى وعيسى وغيرهما من الرسل، وفائدتها تقوية إيمان المؤمنين الذين شاهدوها ومن يصح عندهم نقلها من بعدهم، وأما التحدي لإقامة حجة رسالته صلى الله عليه وسلم فكانت خاصة بالقرآن، وهو مشتمل على آيات تقدم بيانها في تفسير آية التحدي من سورة البقرة (ج1) وفي غيرها.

الأصل الخامس: امتناع تعذيب الله المشركين مادام الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم كما في الآية 33 وتفسيرها في ج 9.

الأصل السادس: استغاثته صلى الله عليه وسلم ربه مع المؤمنين وإمداده تعالى إياهم بالملائكة وتغشيته إياهم النعاس وإنزاله عليهم المطر. وذلك في الآيات 9 12 وتفسيرها في ج 9 الخ وفيه بحث كمال توكله صلى الله عليه وسلم وثقته بربه، وإعطائه كل مقام من التوكل والأخذ بالأسباب حقه، واختلاف حال الخروج في الهجرة وحال الحرب ببدر.

الأصل السابع: أنه ليس من شأنه صلى الله عليه وسلم ولا مما يصح منه إذ ليس من شأن الأنبياء ولا من سنتهم في الحرب أخذ الأسرى ومفاداتهم قبل الإثخان في الأرض بتمكين أهل الحق والعدل فيها وهو الآية 67.

الأصل الثامن: عتابه تعالى له في ضمن المؤمنين لعمله برأيهم في أخذ الفداء من أسارى بدر في الآيتين 67 و69 فيراجع تفسيرهما وما فيه من التحقيق وما فيهما من الحكم والأحكام.

الأصل التاسع: تكريمه وتشريفه صلى الله عليه وسلم بما قرن الله عزَّ وجلَّ من طاعته بطاعته والاستجابة له بالاستجابة له ومشاقته بمشاقته والنهي عن خيانتهما معا، ومثله جعل الأنفال لله ولرسوله فيما يبين في مواضعه من الفصل الآتي، ويا له من شرف عظيم، وتكريم لا يعلوه تكريم.

الفصل الثاني:

« في حقوقه صلى الله عليه وسلم على الأمة

وفيه ستة أصول تتمة 15 أصلاً»

الأصل العاشر: إيجاب طاعته صلى الله عليه وسلم بالأمر بها تكرارا وجعلها مقارنة لطاعة الله تعالى في الآيات 1 و2 و46 وفي معناه الأمر بالاستجابة له صلى الله عليه وسلم في الآية 24 مقارنة للاستجابة لله تعالى.

الأصل الحادي عشر: حظر مشاقته صلى الله عليه وسلم وجعلها كمشاقة الله عزَّ وجلَّ في الوعيد عليهما معا في الآية 13 وأصل المشاقة الخلاف والانفصال الذي يكون به كل واحد من المنفصلين في شق وجانب غير الذي فيه الآخر، فكل من يرغب عن هديه وسنته صلى الله عليه وسلم ويفضل عليهما غيرهما مما يسمى دينا أو تشريعا أو ثقافة وتهذيبا فهو داخل في هذا الوعيد.

الأصل الثاني عشر: حظر خيانتهم له صلى الله عليه وسلم مقارنا لخيانة الله تعالى في الآية 27.

الأصل الثالث عشر: كراهة مجادلته صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويحاوله ويرغب فيه من أمور الدين أو مصالح المسلمين ولكن يشترط في هذه أن تكون المجادلة بعد تبين الحق للمسلمين في المسألة. وذلك قوله تعالى: {ويجادلونك في الحق بعدما تبين} [الأنفال: 6] وهي في أمر الخروج إلى بدر ووعد الله تعالى للمؤمنين على لسانه صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين من المشركين طائفة العير وطائفة النفير أي الحرب على الإبهام ثم زوال الإبهام بتعين لقاء الثانية. وأما المجادلة والمراجعة في المصالح الحربية السياسية قبل أن يتبين الحق فيها فهو محمود مع الأدب اللائق إذ هي مقتضى المشاورة التي عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وفي غيرها كما ترى في ج 9. ثم فرضها الله تعالى عليه في غزوة أحد (راجع ج 4).

وفي الآية الدالة على هذا الأصل آية حجة على حسن تربيته صلى الله عليه وسلم للمؤمنين وصبره على ضعفاء الإيمان منهم حتى يكمل.

الأصل الرابع عشر: كون الأنفال لله والرسول في الآية الأولى وفيها شرف المقارنة أيضا.

الأصل الخامس عشر: جعل خمس الغنائم لله وللرسول كما في آية 41 وفيها ما تقدم.

الباب الثالث:

في عالم الغيب كالبعث والجزاء والملائكة والشياطين:

أصول هذا الباب ومسائله قليلة في هذه السورة لما تقدم بيانه في التمهيد وهي:

ما ورد في جزاء المؤمنين الكاملين بعد بيان صفاتهم في أولها وهو قوله تعالى: {لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال:4] وهو مبطل لقاعدة الوثنية في التماس النفع ودفع الضر ودرجات الآخرة بالتوسل بأشخاص الصالحين.

ما ورد في جزاء الكافرين من قوله تعالى بعد إنذار المشاقين له ولرسوله شديد عقابه {ذلكم فذوقوه وأن للكافرين عذاب النار} [الأنفال: 15] أي عذاب الدار التي تسمى النار.

ما ورد في جزاء الفاسقين المرتكبين لكبائر الإثم والفواحش من قوله في المتولي عن الزحف {ومأواه جهنم وبئس المصير} [الأنفال: 16] وهو ناقض لبناء الوثنية في كون الاعتماد على بعض أشخاص الصالحين كافيا للنجاة من عقاب النار جزاء على الفسق فإن هذا الاعتماد عليهم الذي أطلق عليه المتأخرون اسم التوسل لو كان نافعا لما عوقب أحد، لأنه سهل على كل أحد.

ما ورد من ذكر الملائكة في وعده تعالى لرسوله والمؤمنين في غزوة بدر بإمدادهم بألف من الملائكة يثبتونهم بوجودهم فيهم وذلك في الآيات 9 و10 و 12 وقد بينا معناه بما يقربه من العقل، على أن الواجب فيه هو الإيمان به مع تفويض صفته وكيفيته إلى الله تعالى كسائر أمور الغيب، فراجع تفسيره في ج 9.

ما ورد من ذكر الشيطان في الآية 11 وهو إذهاب رجزه ووسوسته عن المؤمنين في غزوة بدر وبينا وجهه في تفسيره «ج 9» وفي الآية 48 من تزيينه أعمال المشركين في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله ووعده لهم بالنصر والجوار فبراءته منهم، وبينا وجهه المعقول في تفسيرها.

الباب الرابع:

في الإيمان وآياته وصفات أهله، وفيه فصلان:

الفصل الأول:

« في المؤمنين الكاملين وفيه ثمانية عشرة أصلاً»

الأصل الأول: إن الإيمان الصادق يقتضي العمل الصالح من تقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله. فمن كان قلبه مطمئنا بالإيمان بالله تعالى وبوحيه إلى رسوله، وباليوم الآخر الذي يبعث فيه الموتى ويجزيهم بأعمالهم، يجد في نفسه داعية لما ذكر وهي مجامع الخير والهدى له في نفسه وفي من يعيش معهم وفي النظام العام للأمة والدولة وهو الشرع الذي شرعه الله وبينه رسوله بالقول والفعل والحكم. وسواء أكان حكمه صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد أو النص. وهذا ما تدل عليه الشرطية في قوله تعالى الآية الأولى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين} كما بيناه في تفسيرها. ومنه أن طاعة إمام المسلمين وقواد عسكره وأمرائه واجب بالتبع لطاعة الله وطاعة رسوله بشرط أن يكون بالمعروف كما قال في آية أخرى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 58].

وأما غير المؤمن فلا يجد من الوازع والباعث في نفسه ما يجده المؤمن، ولا يرجو ويخاف ما يرجوه المؤمن ويخافه من ربه، وإنما يرجو من الناس أن يمدحوه أو يعينوه، ويخافهم أن يذموه أو يعيبوه، ويخشى الحكام أن يحتقروه أو يعاقبوه.

ثم بين لنا تعالى أن المؤمنين الصادقين الذين يكون لإيمانهم مثل هذه الثمرات الثلاث هم الذين يتحققون بالصفات الخمس التي قصروا أنفسهم عليها. أو قصرهم الإيمان في خيامها، وقال في الآية الثانية: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله تعالى وجلت قلوبهم} إلى قوله {يتوكلون} وكل منها أصل مستقل في هذا الباب فنذكرها بترتيبها.

الأصل الثاني: أن من شأن المؤمن الصادق أن يوجل قلبه عند ذكر الله تعالى، والوجل استشعار المهابة والجلال، أو الخوف والفزع، وهو أنواع يبعث كل نوع من الذكر نوعا منها، وتختلف درجات المؤمنين، وأعلى أنواعه شعور المهابة والعظمة والإجلال لربهم الرحمان الرحيم الخالق الرازق المدبر المسخر القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير، ويليه الوجل من جهل العاقبة، ومن العقوبة بالحجاب أو العذاب. وهذا الشعور بأنواعه آية الإيمان الوجداني وثمرته.

الأصل الثالث: أن من شأن المؤمن الصادق أن يزداد إيمانا إذا تلا أو تليت عليه آيات الله عزَّ وجلَّ، بأن يربو شعوره في قلبه فيكون وجدانا لا يحوم حوله شك ولا ريب، ولا يؤثر فيه مغالطة ولا جدل، وبأن يعطى فهما في القرآن، وبما يفتح عليه من معاني الآيات آناَ بعد آن، من مدلولات نصوصها وفحوى عباراتها، ودقائق إشاراتها وبما يؤتى من العبرة والموعظة بتدبره، فيكون مزجيا له للعمل به، فالإيمان يزيد بالكيف وبالكم جميعا، ومن ذاق عرف، وهذه آية الإيمان المشترك بين العقل والوجدان، وهما الباعثان على الأعمال.

الأصل الرابع: أن من شأن المؤمن الصادق أن يتوكل على الله تعالى أي يكل أموره إليه وحده كما أفاده الحصر بقوله في هذه الآية: {وعلى ربهم يتوكلون} [الأنفال:2] وفي معناها آيات في هذه السورة وغيرها بعضها بصيغة الحصر كهذه الآية وبعضها بصيغ أخرى اقتضتها الحال، ولكل مقام مقال.

التوكل على الله تعالى أعلى مقامات التوحيد، فالمؤمن الموحد الكامل لا يتوكل على مخلوق مربوب لخالقه مثله، بل مشهده في المخلوقات أنها أسباب سخر الله بعضها لبعض في نظام التقدير العام، الذي أقام به أمور العالم المختار منها وغير المختار، فكلها سواء في الخضوع لسننه في الأسباب والمسببات، والسجود له في الانفعال بتقديره في نظام الكائنات، وهي فيما وراء تسخيره إياها سواء في العجز عن النفع والضر إيجابا وسلبا. فشأن المؤمن المتوكل في دائرة الأسباب أن يطلب كل شيء من سببه، وخضوعا لسنته تعالى في نظام خلقه، وهو بذلك يطلبها من حيث أمره أن يطلبها أمرا تكوينيا قدريا، وتشريعيا تكليفيا، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها، وكَل أمره فيها إلى ربه تعالى، داعيا إياه أن يعلمه ما جهل بما سنه من أسباب العلم، ومنها الإلهام في بعض الأحيان وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد أو حيوان أو إنسان، وقد بين تعالى فائدته في قوله من هذه السورة {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [الأنفال:51] وقد بينا موقعه في تفسيرها (ج 9) وفي آية {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله} [الأنفال:61] وبينا موقعها في تفسيرها وتقدم قبلها في معناها وهو متمم له قوله: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله} [الأنفال:62] ومثله قوله بعدها: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال:63] فالإحساب جزاء التقوى، كما ورد في آيات أخرى.

التوكل مؤلف من الإيمان الاعتقادي الوجداني، ومن العمل الإيجابي والسلبي، فكم من عمل يقدم عليه المؤمن المتوكل ويحجم عنه غيره لعظمته، أو ما يخشى من عاقبته، وكم من عمل يتركه المتوكل ولا تطيب نفس غيره بتركه، لما يحرص عليه من فائدته، أو يتوقعه من سوء مغبته. وليس من التوكل ترك الأسباب الصحيحة في المعيشة والكسب والتداوي والحرب وغيرها، بل هو لا يتحقق بدونها، ولكن ينافيه الأخذ بالأمور الوهمية كالرقية والطيرة، وقد فصلنا هذا في مواضع (من أوسعها ما في ص 205-214، ج 4 تفسير).

الأصل الخامس: أن من شأن المؤمن الصادق إقامة الصلاة على أتم وجه وأكمله في أركانها وآدابها وسننها والخشوع والتدبر فيها. والصلاة عماد الدين، وأكمل العبادات الروحية البدنية الاجتماعية، وعبر عنها بالإيمان في قوله تعالى من آيات القبلة {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [البقرة: 143] كما قال جمهور المفسرين بقرينة السياق وقد وجهناه بأنه أثر الإيمان الراسخ في القلب، المصلح للنفس، (ص 10، ج 2 تفسير) وبينا أسرارها وحكمتها وفوائدها ومفاسد تركها في مواضع من ذلك الجزء والجزء الأول الذي قبله بإسهاب تام ولذلك اختصرنا الكلام في تفسير آية هذه السورة من الجزء التاسع.

الأصل السادس: أن من شأن الصادق الإنفاق في سبيل الله مما رزق الله وهو يشمل الزكاة المفروضة وغيرها من النفقات الواجبة والمستحبة، ولعل بذل المال في سبيل الله أقوى آيات الإيمان، وقد بينا القول فيه حيث وقع الأمر به من سورة البقرة بالتفصيل ومن غيرها بالاختصار، فهو العبادة المالية التي يتوقف عليها أهم الأعمال الدينية والدنيوية، من منزلية (عائلية) ومدنية وعسكرية، وبمجموع هذه الصفات يكمل الإيمان، ويستحق صاحبه وعد الله المؤمنين سعادة الدنيا والآخرة، وما ذكره تعالى من الجزاء في الأصل الآتي.

الأصل السابع: أن جزاء هؤلاء المؤمنين الكاملين ما بينه تعالى بقوله: {أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم} [الأنفال: 4] فراجع تفسيره في ج 9.

الأصل الثامن: من آيات الإيمان الكامل بالتوكل على الله استغاثة الرب وحده ولا سيما في الشدائد، كما فعل جمهور المؤمنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وذكرهم به بعدها، وبما من عليهم من الاستجابة لهم بها، في قوله {إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم} [الأنفال: 9] الآية. وتجد في تفسيرها تحقيق الكلام في كمال توكل النبي صلى الله عليه وسلم وكون توكل صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه دونه، وما كان من خوفه صلى الله عليه وسلم ببدر وسكينته في الغار وإعطائه كل مقام حقه، كما ذكرناه في الفصل الأول من الباب الثاني من هذه الخلاصة.

الأصل التاسع: عناية الله تعالى بعباده المؤمنين الكاملين من أهل بدر التي أثنى عليهم بها في الآيات 9 12 (أصل 6 فصل 1 باب 2) وقد أشرنا إليه آنفا في الكلام على عنايته تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم.

الأصل العاشر: إن الله تعالى يبلو المؤمنين بلاء حسنا بمثل النصر والغنيمة، كما يبلوهم أحيانا بلاء شديدا بالبؤس والهزيمة، تربية لهم، وبيانه في تفسير قوله تعالى من الآية {وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا} [الأنفال:17] وبكلا البلاءين يتم تمحيص المؤمنين « راجع ص 623، ج 9).

الأصل الحادي عشر: إرشاده المؤمنين إلى ما يغفل عنه الجاهلون من الانتفاع بنعمة الله عليهم في سماع العلم والحكمة، واتقاء ما يصرف عنه من الإعراض والغفلة، وذلك في الآيتين 20 و21 وتدبر ما فسرناهما به في ج 9.

الأصل الثاني عشر: إرشاده تعالى إياهم إلى الحياة المعنوية، التي يرتقون بها عن أنواع الحياة الحيوانية. وهي ما يدعوهم إليه الرسول بكتاب الله تعالى فتدبر فيه الآية 24 وتفسيرها في ج 9.

الأصل الثالث عشر: إرشاده إياهم إلى سنته في جعل الأموال والأولاد فتنة للناس، أي امتحانا شديد الوقع في النفس، وتحذيرا لهم من الخروج في أموالهم ومصالح أولادهم عن الحق والعدل، بقوله: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة} [الأنفال:28] وهذا أصل عظيم في تربية المؤمن نفسه على التزام الحق وكسب الحلال واجتناب الحرام، واتقاء الطمع والدناءة في سبيل جمع المال والادخار للأولاد. وقد كان أكثر أولاد المؤمنين عند نزول هذه الآية مشركين، وفيهم نزل قوله تعالى: {إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم} [التغابن:14، 15] وإننا نرى كثيرا من المسلمين، حتى اللابسين منهم لباس الدين، يرتكبون المعاصي والدنايا في هاتين الفتنتين، ومنهم من يحرم بعض أزواجه وأولاده من إرثه بالهبة للآخرين منهم، أو وقف العقار وحبسه عليهم.

الأصل الرابع عشر: تذكير المؤمنين بماضيهم، وما كان ضعف أمتهم واستضعاف الشعوب لهم، وخوفهم من تعطف الناس إياهم، ليعلموا ما أفادهم الإسلام من عزة وقوة ومنعة قبل إثخانه في الأرض وتمكن سلطانه فيها. ومعرفة تاريخ الأمة في ماضيها، أكبر عون لها على إصلاح حالها واستعدادها لاستقبالها، فراجع الآية 26 وتفسيرها في ج 9.

الأصل الخامس عشر: جعل الألف منهم يغلب ألفين من الذين كفروا في حال الضعف على سبيل الرخصة وجعل الألف يغلب عشرة آلاف من الكافرين في حال القوة على سبيل العزيمة، كما نص في الآيتين 65 و66 ويذكر مفصلا في باب قواعد الأحكام الحربية.

الأصل السادس عشر: إرشاد المؤمنين إلى ما يكسبون به ملكة الفرقان العلمي الوجداني الذي يفرق به صاحبه بين الحق والباطل والخير والشر والمصلحة والمفسدة. وتجد هذا في الآية 29 وتفسيرها في ج 9 ويذكر هذا الأصل في السنة السادسة من سنن الاجتماع.

الأصل السابع عشر: امتنان الله على رسوله الأعظم بتأييده وبنصره وبالمؤمنين، وبتأليفه بين قلوبهم، ويا لها منة عظيمة من مننه تعالى عليهم، ومنقبة هي أعظم مناقبهم، راجع تفسير الآية 63.

الأصل الثامن عشر: منة الله تعالى وفضله على أصحاب رسوله ولا سيما أهل بدر بمشاركتهم إياه في كفاية الله تعالى إياه وإحسابه له ولهم في قوله عزَّ وجلَّ: {يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} [الأنفال: 64].

وهذا أشرف ما شرفهم الله تعالى به وتقدم ذكره في عنايته تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم.

إيقاظ واعتبار:

من تدبر هذه الأصول يعلم كنه الإيمان وثمراته وأنه ليس جنسية سياسية: ولا دعوة لسانية، بل هو أعلى المراتب البشرية، والكمالات الإنسانية، المطهرة لأهله من الخرافات والدناءات، فليزن القارئ إيمانه بميزان القرآن، وليكن له أسوة حسنة الذين سبقونا بالإيمان.

الفصل الثاني:

في حالة ضعفاء المؤمنين إيمانا أو حالا ونفسا

وقرب بعضهم من المنافقين

بعد أن بين صفات المؤمنين الكاملين في أول السورة ومنهم أكثر أهل بدر بين حال غير كاملي الإيمان منهم بقوله: {كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون} [الأنفال: 5، 6].

وقال في تعجب المنافقين وضعفاء الإيمان من إقدام كملة المؤمنين على قتال المشركين في بدر على ما بين الفريقين من التفاوت {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرَّ هؤلاء دينُهم ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [الأنفال: 49].

وقال في تعزير الذين أخذوا من أسرى بدر قبل إذنه تعالى لهم به {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} إلى قوله {عذاب عظيم} [الأنفال:67، 68].

فمن أقام قسطاس الموازنة المستقيم بين ضعفاء الإيمان من الصحابة رضي الله عنهم وأقوى مؤمني هذا العصر إيمانا يعلم مقدار بعد المسافة بين الفريقين. وأما كملة الإيمان منهم وهم الأكثرون فهم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري والنصيف مكيال أو نصف المد.

الباب الخامس:

« في بيان حال الكفار من المشركين وأهل الكتاب وذلك في آيات»

و2 و3 قوله تعالى: {سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب} [الأنفال: 12] أي عند لقاء المؤمنين في القتال، وما علله به بعده من مشاقتهم لله ولرسوله، وتوعدهم بعذاب النار. فهذه ثلاث آيات في حالهم ومآلهم وقد ثبت أنه كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه ينصر بالرعب، ثبت هذا نصا وثبت فعلا، وكان للمسلمين حظ من إرثه صلى الله عليه وسلم بقدر ما كان من إرثهم لهدايته.

قوله تعالى للمؤمنين {إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال:15] الخ ففيه تحقير لشأنهم.

قوله تعالى: {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال: 17] الآية ففيها بيان لخذلانه تعالى لهم وتمكين المؤمنين من قتلهم في بدر بتأييده ونصره الذي تقدم في بيان عناية الله تعالى بهم وقبله في عنايته برسوله صلى الله عليه وسلم.

قوله في تعليل ما ذكر {ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين} [الأنفال: 18] وكذلك كان.

قوله في أهل الكتاب منهم {إن تستفتحوا فقد جاءهم الفتح} [الآية الأنفال: 19] بناء على ما حكاه تعالى عنهم في سورة البقرة {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} [البقرة: 89] فيراجع تفسيره في ج 1.

قوله تعالى في نقائصهم {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} [الأنفال: 22] فوصفهم بتعطيل مشاعرهم ومداركهم الحسية والعقلية كما قال في وصف أهل جهنم {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179] وبمثل هذا يدرك العاقل أن ما يذمه الكتاب العزيز من الكفار ليس هجاء شعريا، ولا تنقيصا تعصبيا، بل هو بيان لما جنوه على أنفسهم من تعطيلهم لمداركهم العلمية، وإفسادهم بذلك لفطرتهم السليمة ومنه يعلم أن المؤمنين يجب أن يكونوا منهم على طرفي نقيض، ويظهر له التفاوت العظيم بين هجاء أهل الجاهلية بعضهم لبعض وبين هذا الذم للكفار، وما فيه من الإصلاح العلمي والأدبي. وأكبر العبرة فيه أن المسلمين إذا صاروا متصفين بهذه الصفات لا ينفعهم لقب الإسلام، ولا الانتماء إلى خاتم النبيين عليهم الصلاة والسلام، فإنما الإسلام هداية، ووظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم الدعاية.

قوله تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الآية، الأنفال:30] وهي في المشركين وأكبر العبرة فيها أنهم كانوا يعادونه صلى الله عليه وسلم اعتزازا بالقوة، لا بالمصلحة ولا بالحجة.

قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا} [الآية، الأنفال:31]. ولو قدروا على مثله لشاءوا، ولو شاءوا ما هو في استطاعتهم لفعلوا، ولو فعلوا لعرف عنهم، ولرجع كل من آمن به صلى الله عليه وسلم إلى الكفر معهم، لأنهم آمنوا بالحجة، ولم يكن لأحد منهم في الإسلام أدنى مصلحة، بل كانوا عرضة للأذى والفتنة.

قوله: {وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} [الأنفال:32] وهو برهان على أنهم كانوا يجحدون جحود كبرياء وعناد، لا تكذيب علم واعتقاد، فهو دليل فعلي على الأمرين اللذين قبله.

قوله: {ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم يعلمون} [الأنفال:34] أي لا يعلمون أن الحق في الولاية على بيت الله تعالى المؤسس لعبادته وحده للذين يتقون الشرك والرذائل، وهذا الحق تكويني وتشريعي كما ثبت بالفعل.

قوله: {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} [الأنفال:35] وهو بيان لقبح عبادتهم وبطلانها لأنها لهو ولعب، ولذلك رتب عليها جزاءها العاجل بقوله عطفا بفاء التعقيب {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون}.

قوله: {إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون} [الأنفال:36] وهذا إنذار يتضمن الإخبار بالغيب عن عاقبة بذلهم للمال في مقاومة الإسلام، وقد ظهر للخاص والعام، فهو من معجزات القرآن.

16- قوله: في تتمة الآية ومنهم من عده آية مستقلة {والذين كفروا إلى جنهم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون} [الأنفال:36،37] وفيه تتمة للإنذار، وجملته أنهم يغلبون في الدنيا ثم يصيرون في الآخرة إلى عذاب النار.

قوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال: 38] وهذه دعوة لهم إلى الإيمان، ليكون وقوع ما أنذروا عن حجة وبرهان، وقد وقع ما أنذرهم فكان تصديقا لإعجاز القرآن، واطرادا لسنته تعالى في معاندي الرسل عليهم السلام.

قوله تعالى للمؤمنين محذرا من صفات الكافرين {ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله} [الأنفال: 47] وهو بيان لصفة المشركين، وحالهم ومقصدهم من خروجهم إلى قتال المؤمنين، وهو البطر وإظهار الكبرياء والعظمة ومراءاة الناس، وهي مقاصد سافلة إفسادية حذر الله المؤمنين منها، فهم إنما يقاتلون لإعلاء كلمة الله وهي التوحيد والحق والعدل، وتقرير الفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما بيناه في محله بشواهد القرآن.

قوله تعالى: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس} [الآية، الأنفال:48] وهو نص في أنهم كانوا مغرورين باستعدادهم الظاهر وكثرتهم العددية، وأنه غرور لا يستند إلا إلى وسوسة الشيطان، التي يروجها عندهم الجهل بقوة الحق المعنوية لدى أهل الإيمان، ولذلك لم تلبث أن زالت عندما التقى الجيشان، بل عندما تراءت الفئتان، كما قال تعالى: {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم} [الأنفال:48] الخ

قوله تعالى في المنافقين وضعفاء الإيمان {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم} [الأنفال:49] وإنما قالوا هذا لمشاركتهم للمشركين المجاهرين بالكفر في الجهل بقوة الإيمان بالله وبما يستلزمه من القوى المعنوية فلم يجدوا تعليلا لإقدام المؤمنين القليلين العادمين للقوى المادية على قتال المشركين المعتزين بكثرتهم وقواهم إلا الغرور بدينهم، وما كانوا مغرورين بأنفسهم، بل واثقين بوعد ربهم، متوكلين عليه في أمرهم، وقد بين الله ذلك في الرد على أولئك المنافقين، بقوله: {ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم} [الأنفال:49].

قوله تعالى: {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم} الآيات. وهذا بيان لأول ما يعرض لهم من العذاب في أول مرحلة من مراحل عالم الغيب، بعد بيان ما يكون من عذابهم وخذلانهم في الأرض. وضرب له المثل بآل فرعون وما كان من عذابهم في الدنيا، وقد صدق خبر الله الذي أوحاه إلى رسوله في سوء عاقبة المشركين في الدنيا، وسيصدق خبره عنهم في الأخرى {فلله الآخرة والأولى}.

قوله تعالى في أهل الكتاب من اليهود الذين عاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده المرة بعد المرة {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون} [الأنفال: 55] إلى قوله: {ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون} [الأنفال: 59] وفيه بيان لفساد إيمانهم، المقتضي لنقض أيمانهم، المعقب لقتالهم ويراجع تفصيل ذلك في تفسير هذه الآيات.

تهوين شأن الكفار في القتال، الذي هو مقتضى تلك الصفات والأحوال، بجعل المؤمنين المستكملي صفات الإيمان، يغلبون ضعفيهم إلى عشرة أضعافهم من الكفار، كما ترى في الآيات 64- 66 بيانه الذي لا يرد في تفسيرها.

ولاية الكفار بعضهم لبعض في الآية 73. وأما الأحكام المتعلقة بقتالهم فبيانها في الباب السابع.

الباب السادس:

في السنن الإلهية في أفراد البشر وأممهم

وهي تدخل في علم النفس وعلم الاجتماع

السنة الأولى: ما ثبت بالمشاهدة والاختبار من تفاوت البشر في الاستعداد للإيمان والكفر وفيهما، وفي الاستعداد للخير والشر وفيهما، وجزاء الله تعالى لهم على أعمالهم في الدنيا والآخرة يجري بمقتضى هذا التفاوت. ومن شواهدها في هذه السورة ما وصف به المؤمنين الكاملين في الآيات 2 4 وما ذكره في الرابعة من درجاتهم عند ربهم في الآخرة، وهي تابعة لدرجاتهم في الدنيا (راجع تفسيرها في ج 9).

ومنها ما يقابل ذلك عن قرب وهو وصفه في الآيتين «5، 6» اللتين بعدهن من حال ضعفاء المؤمنين ومجادلتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في الحق بعد ما تبين فراجع تفسيرها هما في ج 9.

السنة الثانية: ما ثبت بالاستقراء من كون الظلم في الأمم يقتضي عقابها في الدنيا بالضعف والاختلال، الذي قد يفضي إلى الزوال، أو فقد الاستقلال. وكون هذا العقاب على الأمة بأسرها، لا على مقترفي الظلم وحدهم منها، قال تعالى: {واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال:52] وذلك أن الفتن في الأمم والظلم الذي ينتشر فيها ولا يقوم من أفرادها وجماعاتها من يقاومه يعم فساده، بخلاف ذنوب الإفراد غير العامة المنتشرة، فالأمة في تكافلها كأعضاء الجسد الواحد، فكما أن الجسد يتداعى ويتألم كله لما يصيب بعضه كذلك الأمم. وقد بينا في تفسير الآية أن الأصل في الفتنة هنا ما شأنه أن يقع بين الأمم من التنازع في مصالحها العامة من السيادة والملك أو الدين والشريعة (ج 9) ومثله كل ما له تأثير في تفرقها وضعفها كفشو الفسق والإسراف في الترف والنعيم المفسد للأخلاق، وهو لا يصل إلى هذا الحد إلا بترك إنكار المنكر الذي تأثم به الأمة كلها، وكل من هذا وذاك ثابت في وقائع التاريخ. ومن الشواهد عليه في هذه السورة قوله تعالى: {كدأب آل فرعون} إلى قوله {وكل كانوا ظالمين} [الأنفال: 54] وهو قد ورد شاهدا لسنة أخرى سيأتي بيانها.

السنتان الثالثة والرابعة: كون الافتتان بالأموال والأولاد مدعاة لضروب من الفساد، فإن حب المال والولد من الغرائز التي يعرض للناس فيها الإسراف والإفراط إذا لم تهذب بهداية الدين، ولم يشذب بحسن التربية والتعليم، قال تعالى: {واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم] [الأنفال: 28]. وقد بينا وجوه ذلك في تفسير الآية (ج 9).

السنة الخامسة: ما ثبت في الكتاب العزيز وأخبار التاريخ من عقاب كفار الأمم الجاحدين الذين عاندوا الرسل وهو قسمان: عقاب الذين عاجزوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية فلم يؤمنوا بها على توعدهم بالهلاك فأهلكهم الله تعالى بعذاب الاستئصال كما أوعدهم على ألسنة رسلهم وعقاب الذين عادوهم وقاتلوهم فأخزاهم الله ونصر رسله عليهم. وقد كان هذا مطردا وسماه الله تعالى سنة في قوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين} [الأنفال: 38].

وليعلم أن النوع الأول من هذين العقابين هو غير الذي بيناه في السنة الثانية فإن الذنب في تلك سبب طبيعي اجتماعي للعقاب، وفي هذه ليس سببا طبيعيا بل وضعيا تشريعيا بمقتضى وعيد الله تعالى، وقد كان الذنب واحدا وهو تكذيب الرسل ومعاندتهم والعقاب عليه مختلفا {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا} [العنكبوت: 40].

والفرق بين النوعين كالفرق بين الأمراض البدنية والمصائب الدنيوية، وبين العقوبات الحكومية، فإن الأولى تحدث بسبب مخالفة نظام وسنن حفظ الصحة فهي علة وسبب طبيعي لها، وأما الثانية وهي العقوبات المقررة في الشرائع والقوانين على جرائم الأفراد كالحدود الشرعية والتعزير بالحبس أو الضرب أو التغريم بالمال على من قتل أو زنى أو سرق أو ضرب أو غصب فهي وضعية تكليفية تقع بفعل منفذ الشرع والقانون، ولو كانت أسبابا تكوينية طبيعية للعقاب الذي يحكم به القاضي وينفذه السلطان لوقع بدون حكم ولا تنفيذ منفذ. وقد تكون سببا لعقاب طبيعي آخر غير عقاب الشرع والقانون، بما تحدثه من الضرر في الصحة والفساد في الأمة، فإن الله تعالى لم يحرم على الناس شيئا إلا لضرره، حتى إذا ما كثرت وفشت فصارت ذنبا للأمة ترتب عليها ما تقدم بيانه في السنة الثانية من عقاب الأمة بفشو الفسق وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد بينا هذا الفرق وهذه السنن مرارا في هذا التفسير وقررنا أن عذاب الآخرة ينقسم إلى هذين القسمين أيضا (فيراجع في مواضعه بدلالة فهارس الأجزاء كلفظ جزاء وعذاب وعقاب وأمم).

وأما النوع الثاني من عقاب معاندي الرسل فهو يشبه عذاب الأمم على ظلمها وفسوقها من وجه واحد ويخالفه من وجهين: يشبهه من حيث إن أعداء الرسل ومقاتليهم كانوا دائما ظالمين لهم ولأنفسهم، لأن الرسل ما جاءوهم إلا بالحق والعدل، وما تنازع أهل الحق والعدل، مع أهل الباطل والظلم، إلا وكانت العاقبة للمتقين وهم القسم الأول، فنصرُ الله تعالى لرسله والمؤمنين القائمين بحقوق الإيمان التي بيناها في مواضع من تفسير هذه السورة وغيرها كان الأصل الأصيل فيه أنه داخل في باب الأسباب الطبيعية الاجتماعية وسنة تنازع البقاء ورجحان الأمثل.

ويخالفه من حيث إن وجود الرسول في المؤمنين القائمين له ضامن لالتزامهم الحق والعدل ومراعاة السنن العامة حتى إذا ما خالفوا وشذوا بنكوب السبيل مرة تابوا وأنابوا كما وقع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوتي أحد وحنين، ووقع ما هو أشد منه لبني إسرائيل مع موسى وغيره من أنبيائهم عليهم السلام.

ويخالفه أيضا من حيث إن وجوده فيهم كان يكون سببا لتأييده تعالى إياهم بشيء من آياته كما وقع في غزوة بدر بإمدادهم بالملائكة يثبتون قلوبهم، وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، وبما كان من رميه صلى الله عليه وسلم إياهم بقبضة من التراب أصابت كل واحد منهم، فأضعفت قلبه، بل أطارت لبه، وما كان من عناية الله تعالى برسوله والمؤمنين في خروجه صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وفي وعده إياهم إحدى الطائفتين أنها لهم على الإبهام، وفي إنزاله المطر عليهم حيث انتفعوا به من دون الكفار فإن هذه الأمور بجملتها كانت توفيق أقدار لأقدار في مصلحة المؤمنين فكانت عناية منه تعالى بهم، أكثرها من طريق الأسباب الظاهرة التي لا يملكونها بكسبهم.

وزد على ذلك ما ورد من الأخبار الصحيحة في بعض الخوارق الكونية له صلى الله عليه وسلم كإطعام الجيش الكثير من طعام قليل أعد لعدد قليل فبارك الله تعالى فيه وكنبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم بما أمده تعالى به من مادة الماء الموجودة في الهواء على خلاف السنة العامة في تكوين الماء المبينة في قوله تعالى: {ألم ترى أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله} [النور:42] ومثله آية [الروم: 47].

السنة السادسة: كون التقوى والحذر في الأعمال من فعل وترك في الشؤون العامة والخاصة من اجتماعية وشخصية ودينية أو دنيوية تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر والمصلحة والمفسدة فيجري في أعماله على مراعاة ذلك في ترجيح الحق والخير والمصلحة على ما يقابلهن إلا فيما عساه يعرض له من جهالة أو سهو أو نسيان لا يلبث أن يرجع عنه إذا ذكر أو تذكر. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} [الأنفال: 29] فراجع تفسيرها وتحقيق ما تكون فيه التقوى من أنواعها وأنواع الفرقان الذي هو ثمرتها في ص 647-650، ج 9.

السنة السابعة: التمييز بين الخبيث والطيب من الأشخاص والأعمال كما نص في الآية 37 وفي معناها آيات أخرى تقدمت وذكرنا أرقامها وأرقام سورها في تفسيرها وقلنا فيه إن هذا التمييز بين الأمرين يوافق ما يسمى في هذا العصر بسنة الانتخاب الطبيعي ورجحان أمثل الأمرين المتقابلين وغلب أفضل الفريقين المتنازعين أو بقاؤه.

السنة الثامنة: كون تغير أحوال الأمم، وتنقلها في الأطوار من نعم ونقم، أثرا طبيعيا فطريا لتغيير ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والملكات، التي تطبعها في الأنفس العادات، وتترتب عليها الأعمال، والنص القطعي فيها قوله: {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الأنفال:53] وقد فصلنا القول في بيانها تفصيلا.

السنة التاسعة: كون الإثخان في الأرض واستقرار السلطان فيها بالقوة الكافية يقتضي اجتناب ما يعارضه ويحول دون حصوله وتحققه كاتخاذ الأسرى من الأعداء ومفاداتهم بالمال في حال الضعف. كما يأتي في القاعدة 22 من الباب 7.

السنة العاشرة: كون ولاية الأعداء من دون الأولياء من أعظم مثارات الفتنة والفساد في الأمة، والاختلال والانحلال في الدولة، كولاية المؤمنين في النصرة والقتال للكافرين الذين يوالي بعضهم بعضا على المؤمنين في الحروب ولا سيما التي مثارها الخلاف الديني، وشواهد هذه السنة في التاريخ الإسلامي وغيره كثيرة جدا وهي التي أزالت الدول الإسلامية الكثيرة، وآخرها الدولة العثمانية الجاهلة التي كانت تتداعى عليها الأمم الأوروبية النصرانية فيتفقون على قتالها إلا عند تعارض مصالحهن فيها. فراجع أحكام الولاية في آخر هذه السورة من آية 72 73 والنص فيها قوله تعالى: {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} [الأنفال:73].

السنة الحادية عشرة: ما ثبت بالقرآن والوجدان من كون الإنسان ذا قدرة وإرادة واختيار في أفعاله من إيمان وكفر وخير وشر وصلاح وفساد، وكل ما ذكر في هذا الباب من سننه تعالى في جزاء الناس على أعمالهم وما ذكر في البابين اللذين قبله والباب الذي بعده من إسناد أفعالهم إليهم فهو مبني على هذه السنة، وأما ما تقدم في الباب الأول من إسناد بعض أعمالهم إلى الله تعالى وتصرفه فيهم فهو بيان لسنته في خلقهم كذلك وعلى هذه القاعدة جرينا في إبطال عقيدة الجبر التي فتن بها أكثر الأشعرية، وشواهده في هذه السورة وغيرها كثيرة، راجع منه فيها تفسير {فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم} [الأنفال:17] الآية في ج 9 وتفسير {واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه} [الأنفال:24] منه.

الباب السابع:

في القواعد الحربية العسكرية والسياسية

وفيه 27 قاعدة:

تنبيه: ورد في هذا الموضوع عدة قواعد في سياق الأوامر والنواهي المناسبة لنظم الكلام الذي تقتضيه البلاغة والتأثير في التلاوة لغرض الهداية التي هي المقصد الأول للدين نذكرها في ترتيب آخر نقدم فيه الأهم في الموضوع فالأهم بحسب الشؤون الحربية فنقول:

القاعدة الأولى: وجوب إعداد الأمة كل ما تستطيعه من قوة لقتال أعدائها فيدخل في ذلك عدد المقاتلة، والواجب أن يستعد كل مكلف للقتال، لأنه قد يكون فرضا عينيا في بعض الأحوال، يستدعي ما يسمى بالنفير العام، ولا يمكن هذا في أمم الحضارة إلا بمقتضى نظام عام. ويدخل فيه السلاح وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال، وقد كثرت أجناسه وأنواعه وأصنافه في هذا الزمان، فمنه البري والبحري والهوائي ولكل منها مراكب وسفائن لمباشرة القتال، ولنقل العسكر والأدوات والزاد والسلاح، ويدخل فيه الزاد ونظام سوق الجيش وغير ذلك من العلوم والفنون الكثيرة.

القاعدة الثانية: وجوب رباط الخيل فإن من أهم القوى الحربية مرابطة الفرسان في ثغور البلاد. وخصه بالذكر للحاجة إليه وعدم الاستغناء عنه حتى في هذا العصر الذي كثرت فيه مراكب النقل البخارية والكهربائية بأنواعها، والنص العام الصريح في هاتين القاعدتين قوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل} [الأنفال:60].

القاعدة الثالثة: أن يكون القصد الأول من إعداد هذه القوى والمرابطة إرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على بلاد الأمة أو مصالحها أو على أفراد منها أو متاع لها حتى في غير بلادها، لأجل أن تكون آمنة في عقر دارها، مطمئنة على أهلها ومصالحها وأموالها، وهذا ما يسمى في عرف هذا العصر بالسلم المسلح، وتدعيه الدول العسكرية فيه زورا وخداعا، ولكن الإسلام امتاز على الشرائع كلها بأن جعله دينا مفروضا، فقيد الأمر بإعداد القوى والمرابطة بقوله: {ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال:60].

القاعدة الرابعة: إنفاق المال في سبيل الله تعالى لإعداد ما ذكر إذ لا يتم بدون المال شيء منه، ولذلك قال بعدما ذكر من هذه الآية {وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون} [الأنفال:60] وقد كان هذا الانفاق في العصر الأول موكولا إلى إيمان المؤمنين في يسرهم وعسرهم كما ترى في أخبار غزوة تبوك المجملة في السورة الآتية (التوبة) والمفصلة في السيرة النبوية، ولا بد له من نظام في هذا العصر يدخل في ميزانية الدولة كما تفعل جميع الدول ذات النظام الثابت، وسيأتي في سورة التوبة أن له سهما من مال الزكاة، وهي قد نزلت بعد الأنفال مفصلة لكثير من إجمالها، ومنها هذا الترغيب الصريح في الإنفاق لإعداد القوى العسكرية وفيه إشارة إلى الترهيب، وإنذار على التقصير، وقد صرح بمثله في قوله تعالى بعد آيات في شرع القتال من سورة البقرة {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 192].

القاعدة الخامسة: تفضيل السلم على الحرب إذا جنح العدو لها، إيثارا لها على الحرب التي لا تقصد لذاتها، بل هي ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها. وذلك قوله تعالى عقب الأمر بإعداد كل ما تستطيعه الأمة من قوة ومرابطة لإرهاب عدوه وعدوها {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها} [الأنفال:61].

ولما كان جنوح العدو للسلم قد يكون خديعة لنا لنكف عن القتال، ريثما يستعدون هم له أو لغير ذلك من ضروب الخداع، وكان من المصلحة في هذه الحال أن لا نقبل الصلح منهم، ما لم نستفد كل ما يمكننا منه تفوقنا عليهم لم يعد الشارع احتمال ذلك مانعا من ترجيح السلم بل قال عز وجل: {وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين} [الأنفال:62] وهو برهان على أن الإسلام دين السلام، لكن عن قدرة وعزة، لا عن ضعف وذلة.

القاعدتان السادسة والسابعة: المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق في الحرب والسلم وتحريم الخيانة فيه سرا أو جهرا، كتحريم الخيانة في كل أمانة مادية أو معنوية أو غيرها مطلقا ومقيدا، والآيات في ذلك متعددة محكمة لا تدع مجالا لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة، وعده قصاصة ورق عند إمكان نقضه بالحيلة، حتى أن الله تعالى لم يبح لنا أن ننصر إخواننا المسلمين غير الخاضعين لحكمنا على المعاهدين من الكفار كما قال في آية {وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق} [الأنفال: 72].

وقال تعالى في النهي عن الخيانة على وجه الإطلاق {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم} [الأنفال: 27]. وتفسيره في (ج 9) وفاتنا أن نذكر من أمثلته نقض عهود الأعداء فهو من أهم الأمانات فذكرناه فيما يلي:

القاعدة الثامنة: نبذ العهد بشرطه إذا خيف من العدو المعاهد لنا أن يخون في عهده، وظهرت آية ذلك في قوله أو عمله، فحينئذ يجب على الإمام أن ينبذ إليه عهده على طريق عادل سوي صريح لا خداع فيه ولا خيانة. وذلك قوله: {وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين} [الأنفال: 58] وهذا من الفضائل التي يمتاز بها التشريع الإسلامي على جميع شرائع الأمم وقوانينها. راجع تفسير الآية وبعض الشواهد على أخذ مسلمي العصر الأول بها عملا بالكتاب العزيز وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فيها.

القاعدة التاسعة: وجوب معاملة ناقضي العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم، تمنعهم من الجرأة والإقدام على مثل خيانتهم بنقضهم، وذلك عبرة قوله تعالى فيمن نقضوا عهد رسوله المرة بعد المرة وكانوا من اليهود {فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون} [الأنفال:67] فراجع تفسيرها (في ج 10) ثم راجع ما كان من معاهدة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود ونقضهم لها وعاقبة ذلك فيهم.

ومنه يظهر الفرق بين تعاليم الإسلام الجامعة بين الحزم والعدل، والشدة والفضل، وبين ما عليه دول المدنية الإفرنجية من القسوة والظلم.

فإن قيل: إن اتباع المسلمين وحدهم لهذه الفضائل في الحرب يمكن أعداءهم من خيانتهم والظهور عليهم بعدم التزامهم لها. قلنا: إن أعداءهم في العصور الأولى كانوا أبعد من أعداءهم في هذا العصر عن هذه الفضائل إذ لم يكونوا مقيدين في الحرب بنظام مثل قوانينها الحاضرة، التي تراعى ويحتج بها، فإن يتركها القوي تأولا. وكان تفوقهم بالقوة والكثرة عظيما، وقد غلبهم المسلمون، وإنما غلبوهم بهذه الفضائل وأمثالها.

القاعدة العاشرة: جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع فتون أحد واضطهاده لأجل إرجاعه عن دينه، وذلك قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير} [الأنفال:39] وقد كان المشركون يضطهدون المسلمين بكل ما قدروا عليه من الإيذاء والتعذيب لأجل دينهم. وأما المسلمون فلم يفعلوا ذلك، ومن عساه شذ عن ذلك فقد خالف دين الإسلام الذي حرم الفتنة وحرم الإكراه في الدين وشرع فيه الاختيار (راجع تفسير الآية في ص 656، ج 9) وتجد في هذا البحث حكم القتال بين المسلمين في حال الفتنة كحرب الجمل وصفين.

القاعدة الحادية عشرة: كون الثبات في القتال من أسباب النصر المعنوية، التي يحصل بها ما يعبر عنه في عرف العصر بالقوة الروحية، وفي هذه السورة منه بضعة أسباب أخرى إيجابية وسلبية، ونذكرها منظومة في سلك هذه القواعد.

القاعدة 12: ذكر الله تعالى عند لقاء العدو، والنص في هاتين القاعدتين قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون} [الأنفال: 45] وقد بينا في تفسير هذه الآية الوجه المعقول في كون هذين الأمرين من أسباب الفلاح والقوة بالنصر وأوردنا بعض الشواهد على صحة ذلك من وقائع الحرب في هذا العصر وأقوال علماء الفن.

القاعدة 13: طاعة الله ورسوله وهي من أسباب النصر المعنوية بنص قوله تعالى عطفا على السببين السابقين {وأطيعوا الله ورسوله} [الأنفال: 46] الخ ويدخل في حكم طاعة الرسول الإمام الذي يحارب المسلم تحت لوائه وطاعة قواده قال رسول الله صلى الله عله وسلم: (من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة وفي رواية لهما بلفظ الأمير وفيها زيادة عند البخاري: (وإنما الإمام جنة يقاتل من وراءه ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه).

الجنة بضم الجيم الترس والوقاية. ومن المعروف الشائع من النظام العسكري في عصرنا أن الطاعة المطلقة ركن من أركانه فيعاقبون من يخالف أوامر القواد من الجند أفراده وضباطه أشد العقاب من ضرب شديد وقتل فظيع، ولولا هذا لما لبث في العالم المدني سلطان ولا حكم، لكثرة تنازع الأحزاب السياسية واختلاف زعمائها حتى في وقت السلم، وكثرة دسائس الأعداء وبذلهم الرشوة ولا سيما زمن الحرب. (راجع تفسير الآية).

القاعدة 14: وجوب الصبر وكونه أعظم أسباب النص، ولذلك عظم الله تعالى شأنه بقوله بعد الأمر بطاعته وطاعة رسوله وبذكره {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال: 46] وأي بيان لفائدة الصبر أبلغ من إثبات معية الله تعالى لأهله.

القاعدة 15: التوكل على الله تعالى وكونه أمر الله تعالى به في هذه السورة في مقام توطين النفس على إيثار السلم على الحرب وثبوت الصلح من الأعداء مع احتمال إرادتهم به الخداع (آية 51، 62) فانظر تفسيرها وقال قبلها في الرد على المنافقين ومرضى القلوب {إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم} [الأنفال:49] فراجع تفسيرها وقد وصف الله المؤمنين بالتوكل فيها وفي الآية الثانية. وقد بينا معناه وفائدته في الأصل الرابع من الباب الرابع لهذه الخلاصة، وإن شئت زيادة البيان في هذا فراجع (ج 4 تفسير).

القاعدة 16: اتقاء التنازع واختلاف التفرق في حال القتال وما يتعلق به، وتعليله بأنه سبب للفشل وذهاب القوة، وذلك قوله تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} [الأنفال: 46] وهذا ما تجري عليه الدول القوية ذات النظام المبني على الشورى في تنازع الأحزاب، فإنها تبطل هذا التنازع وتوقف عمل مجالس الشورى النيابية في زمن الحرب وتكتفي بالشورى العسكرية، وهي مشروعة في الإسلام عمل بها صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وفرضها الله تعالى عليه في غزوة أحد، وهي واجبة على من دونه من الأئمة والأمراء بالأولى راجع تفسير {وشاورهم في الأمر} [آل عمران: 159] الخ (في ج 4 تفسير).

القاعدة 17: اتقاء البطر ومراءاة الناس في الحرب كالمشركين كما في الآية 47.

القاعدة 18: تحريم التولي من الزحف والوعيد عليه في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار} [الأنفال:15] الخ وتفسيرها في ج 9 هو آكد من إيجاب الثبات في القتال.

القاعدتان 19 و20: تشريع قتال المؤمنين في حال القوة لعشرة أمثالهم من الكفار وتوطين النفس على الفوز والنصر عليهم من باب العزيمة، وقتالهم لمثليهم في حال الضعف من باب الرخصة، وتعليل ذلك بما يقتضيه الإسلام من كون المؤمنين أكمل صبرا من المشركين، ويفقهون من علم الحرب وأسباب النصر فيها مالا يفقه المشركون، وذلك نص الآيتين 64 و 65 وبيانه في تفسيرها.

القاعدة 21: منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال في حال الضعف وتقييد جواز ذلك بالإثخان في الأرض بالقوة والعزة والسيادة. فيراجع في تفسير الآيتين 67 و68 وتجد فيه أحكام الأسر والمن والفداء.

القاعدة 22: ترغيب الأسرى في الإيمان وإنذارهم خيانة المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء. راجع تفسير الآية 70 ورجال الحرب في هذا العصر يأخذون عليهم عهودا أخرى.

القاعدة 23: إباحة غنائم الحرب ومنه فداء الأسرى في الآية 29.

القاعدة 24: قسمة الغنائم ومستحقوها في الآية 41.

القاعدة 25: ولاية النصرة بين المؤمنين في دار الإسلام وأصله ما كان بين المهاجرين والأنصار وهو في الآية 13.

القاعدة26: عدم ثبوت ولاية النصرة بين المؤمنين الذين في دار الإسلام والمؤمنين في دار الحرب أو خارج دار الإسلام إلا على من يقاتلهم لأجل دينهم فيجب نصرهم عليه إذا لم يكن بيننا وبينه ميثاق صلح وسلام بحيث يكون نصرهم عليه نقضا لميثاقه. وبيانه في تفسير تتمة الآية 72.

القاعدة 27: ولاية الكفار بعضهم لبعض كما في الآية 73 وفي تفسيرها أحكام توارثهم معنا وبعضهم مع بعض.

انتهى تلخيص أصول السورة وسننها وقواعدها وأحكامها، ولله الحمد.