الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

الخامسة - قوله تعالى : " والذين آمنوا من بعد وهاجروا " يريد من بعد الحديبية وبيعة الرضوان . وذلك أن الهجرة من بعد ذلك كانت أقل رتبة من الهجرة الأولى . والهجرة الثانية هي التي وقع فيها الصالح ، ووضعت الحرب أوزارها نحو عامين ثم كان فتح مكة . ولهذا قال عليه السلام : ( لا هجرة بعد الفتح ) . فبين أن من آمن وهاجر من بعد يلتحق بهم . ومعنى " منكم " أي مثلكم في النصر والموالاة .

السادسة - قوله تعالى : " وأولوا الأرحام " ابتداء . والواحد ذو ، والرحم مؤنثة ، والجمع أرحام . والمراد بها ههنا العصبات دون المولود بالرحم . ومما يبين أن المراد بالرحم العصبات قول العرب : وصلتك رحم . لا يريدون قرابة الأم . قالت قتيلة بنت الحارث - أخت النضر بن الحارث - كذا قال ابن هشام .

قال السهيلي : الصحيح أنها بنت النضر لا أخته ، كذا وقع في كتاب الدلائل - ترثي أباها حين قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبرا - بالصفراء{[7817]} :

يا راكبا إن الأثيل مَظِنَّة *** من صبح خامسة وأنت موفق

أبلغ بها ميتا بأن تحية *** ما إن تزال بها النجائب تخفِق

مني إليك وعَبْرة مسفوحة *** جادت بواكفها وأخرى تخنق

هل يسمعني النضر إن ناديته *** أم كيف يسمع ميت لا ينطق

أمحمد يا خير ضنء{[7818]} كريمة *** في قومها والفحل فحل مُعْرِقُ

ما كان ضرك لو مننت وربما *** من الفتى وهو المغيظ المحنَقُ

لو كنت قابلَ فدية لفديته *** بأعز ما يفدى به ما ينفق

فالنضر أقرب من أسرت قرابة*** وأحقهم إن كان عتق يعتق

ظلت سيوف بني أبيه تنوشه *** لله أرحام هناك تشقق

صبرا يُقَادُ إلى المنية متعبا *** رَسْفَ المقيد وهو عان موثق

السابعة - واختلف السلف ومن بعدهم في توريث ذوي الأرحام - وهو من لا سهم له في الكتاب - من قرابة الميت وليس بعصبة ، كأولاد البنات ، وأولاد الأخوات وبنات الأخ ، والعمة والخالة ، والعم أخ الأب للأم ، والجد أبي الأم ، والجدة أم الأم ، ومن أدلى بهم . فقال قوم : لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام . وروي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر ، ورواية عن علي ، وهو قول أهل المدينة ، وروي عن مكحول والأوزاعي ، وبه قال الشافعي رضي الله عنه . وقال بتوريثهم : عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة وعلي في رواية عنه ، وهو قول الكوفيين وأحمد وإسحاق . واحتجوا بالآية ، وقالوا : وقد اجتمع في ذوي الأرحام سببان القرابة والإسلام ، فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام . أجاب الأولون فقالوا : هذه آية مجملة جامعة ، والظاهر بكل رحم قرب أو بعد ، وآيات المواريث مفسرة والمفسر قاض على المجمل ومبين . قالوا : وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الولاء سببا ثابتا ، أقام المولى فيه مقام العصبة فقال : ( الولاء لمن أعتق ) . ونهى عن بيع الولاء وعن هبته . احتج الآخرون بما روى أبو داود والدارقطني عن المقدام قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك كلا فإلي - وربما قال فإلى الله وإلى رسوله - ومن ترك مالا فلورثته فأنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه ، والخال وأرث من لا وارث له يعقل عنه ويرثه ) . وروى الدارقطني عن طاوس قال قالت عائشة رضي الله عنها : ( الله مولى من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له ) . موقوف . وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخال وارث ) . وروي عن أبي هريرة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميراث العمة والخالة فقال ( لا أدري حتى يأتيني جبريل ) ثم قال : ( أين السائل عن ميراث العمة والخالة ) ؟ قال : فأتى الرجل فقال : ( سارني جبريل أنه لا شيء لهما ) . قال الدارقطني : لم يسنده غير مسعدة عن محمد بن عمرو وهو ضعيف ، والصواب مرسل . وروي عن الشعبي قال قال زياد بن أبي سفيان لجليسه : هل تدري كيف قضى عمر في العمة والخالة ؟ قال لا . قال : إني لأعلم خلق الله كيف قضى فيهما عمر ، جعل الخالة بمنزلة الأم ، والعمة بمنزلة الأب .


[7817]:بقعة بين مكة والمدينة وتسمي وادي الصفراء.
[7818]:ضنء: (بالكسر): الأصل.