التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

/خ72

ختام السورة:

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن يزيد بن الخطيب الأسلمي جاء فيه في ما جاء في صدد الجهاد والدعوة من وصية النبي التي كان يوصي بها قواد سراياه ودعاته : " فإن أجابوك إلى الإسلام فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحوّل من دارهم إلى دار المهاجرين ، واعلمهم إن فعلوا ذلك أنّ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم فإن أبوا واختاروا دارهم فاعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري عليهم ولا يكون لهم في الفيئ والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين " . والحديث من مرويات مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أيضا بفروق يسيرة{[1]} . والراجح أنه صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم قبل فتح مكة فيكون بينه وبين الحديث السابق وبين الآيتين تساوق كما هو واضح .

ومع ذلك فإن في الآية الأولى تلقينا مستمر المدى بوجوب عدم بقاء المسلم في دار الظلم والبغي راضخا لحكم الظالمين البغاة وبوجوب هجرته إذا استطاع إلى حيث يكون له إخوان يقاسمهم السراء والضراء ويتضامن معهم على هدم البغي والظلم وإرغام البغاة والظالمين .

وفي الآية تلقين جليل آخر ، وهو وجوب احترام المسلمين لعهودهم حتى ولو كانت حائلة أحيانا دون نصر مسلمين آخرين في بقعة أخرى . ولقد تكرر حثّ القرآن على الوفاء بالعهد بحيث يكون هذا مبدأ محكما من مبادئ القرآن . وننبّه بهذه المناسبة على أننا لم نر أحدا من المفسرين فيما اطلعنا عليه يقول بنسخ هذا المبدأ ولو في حالة مثل الحالة التي ذكرت في الآية . بحيث يكون هذا أيضا محكما بالنسبة لهذه الحالة . ومن تحصيل الحاصل أن يقال : إن هذا لا يمنع المسلمين المعاهدين من بذل جهودهم مع معاهديهم لضمان حرية المسلمين وحقوقهم عندهم ؛ لأن روح الآية تلهم أن التلقين قاصر على عدم نقض العهد كما تلهم أن على المسلمين مبدئيا نصرة إخوانهم الذين يستنصرون بهم حيث يوجب هذا عليهم بذل تلك الجهود .

وأسلوب الآية الثانية قويّ شديد ، وهذا ما اقتضته على ما هو المتبادر ظروف نزولها ؛ حيث كانت الوشائج بين مسلمي قريش وكفارهم قويّة ، بينما غدا العداء مستحكما شديدا بين المسلمين عامة وبين هؤلاء الكفار ، بحيث كان أقل تهاون أو تسامح أو تفكك يسبب فسادا عظيما ويهدد مصلحة المسلمين بأشد الأخطار ، وقد تكرر التشديد في هذا الأمر في آيات عديدة أخرى ؛ لأن الحالة ظلت تقتضي ذلك مثل آية سورة المجادلة هذه : { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ 22 ] . ومثل آية سورة التوبة هذه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [ 23 ] .

وفي الآيات الثلاث الأولى توطيد للوحدة الإسلامية التي جمعت بين المسلمين على اختلاف قبائلهم ، وإقامتها مقام عصبية القبيلة والأسرة الضيقة التي كانت هي ضابط الحياة الاجتماعية العربية قبل الإسلام والتي كانت تؤدي إلى العداء والحروب بين القبائل لأتفه الأسباب . كما أن فيها تلقينا جليلا مستمر المدى بإيجاب كبح جماح النفس والهوى الخاص : الشخصي والأسروي والقبلي في مواقف النضال وجعل المصلحة العامة هي السائدة العليا وتضحية كل اعتبار في سبيلها .

ومن الحق أن ننبه إلى أن التشديد الذي احتوته الآية الثانية إنما هو في صدد التناصر والتولي أولا . وليس شاملا إلا بالنسبة للظروف التي يكون فيها عداء وقتال بين المسلمين والكفار ثانيا ؛ حيث ورد في القرآن آيات كثيرة تقرّ المسالمة والصلح بين المسلمين وغيرهم وتأمر بالاستقامة للمعاهدين ما استقاموا مما مرت الإشارة إليه في هذه السورة وفي سورة البقرة وفي سور أخرى على ما يأتي شرحه بعد . وحيث ورد في سورة الممتحنة آيات تحثّ المسلمين على البرّ والإقساط لغيرهم الذين يوادونهم ويسالمونهم وتحصر النهي في الذين يقاتلون المسلمين ويظاهرون عليهم أعداءهم كما ترى فيها : { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( 8 ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( 9 ) } .

والتنويه الذي احتوته الآية الثالثة قوي وعظيم . فالذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله دون تردد وتقصير ، والذين آووا المهاجرين ونصروهم وتضامنوا معهم وكبحوا جماح النفس ، ولم يدعوا لأي ميل وصلة سبيلا على أداء ما يجب عليهم من التضامن والتناصر والتواثق هم أولياء بعض حقا وهم المؤمنون حقا وهم أهل لتكريم الله ورضائه حقا . وفي هذا ما فيه من تلقين جليل نفساني واجتماعي وإيماني مستمر المدى ، وقد تكرر ثناء القرآن وتنويه بهم مما مرّ منه أمثلة في سورة البقرة ، وما ورد أمثلة أخرى في سور أخرى يأتي تفسيرها بعد .

والفقرة الأولى من الآية الرابعة فتحت الباب لاندماج من يؤمن ويهاجر ويجاهد بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في صف المؤمنين المهاجرين المجاهدين السابقين . وهؤلاء وأمثالهم ممن عنتهم جملة { والذين اتبعوهم بإحسان } في آية سورة التوبة هذه : { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه . . . } [ 100 ] وفي هذا تلقين جليل يتصل بتوطيد الأخوة بين المسلمين حينما يجتمعون في ساحة واحدة من الإيمان والهجرة والجهاد وإن تأخر بعضهم عن بعض . ويتصل كذلك بمعنى التسامح والتصافي ونسيان الماضي الأليم . وهو تلقين مستمر المدى في كل ظرف مماثل على ما هو المتبادر . وفي سورة التوبة آية فيها توطيد لهذا المعنى بأسلوب آخر وهي { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( 11 ) } .

والفقرة الثانية من الآية الرابعة هي في صدد أولوية ذوي الأرحام ببعضهم حينما يكونون جميعهم مسلمين في كل ما يترتب على ذوي الأرحام نحو بعضهم من حقوق وتبعات ، ويدخل في ذلك حقوق التوارث طبعا . وهذه الحقوق ممتنعة بين المسلمين والكفار على ما أوضحته السنة النبوية ؛ حيث روى البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه : ( لا يرث المسلم الكافر ولا يرث الكافر المسلم ){[2]} . وحيث روى أصحاب السنن حديثا نبويا ثانيا جاء فيه : ( لا يتوارث أهل ملتين شتى ){[3]} . ولقد روى المفسرون{[4]} أن هذه الآية نسخت ما كان قبلها من التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار ، وأنها نزلت لحدتها ومتأخرة عن سابقاتها . ومع احتمال صحة تأخرها عن سابقاتها ؛ حيث احتوت حكما متعلقا بمن التحق بالمسلمين مؤخرا مهاجرا مجاهدا وكون وضعها في محلها هو للتناسب الموضوعي فإننا غير مطمئنين إلى القول بوجود نسخ فيها على النحو الذي ذكره المفسرون استنباطا من الآية الأولى بعد أن رجحنا أن هذه الآية هي في صدد الحثّ على التضامن والتناصر ، وليست في صدد توطيد التوارث بين المتآخين من الأنصار والمهاجرين استنادا إلى القرائن الملموحة في الآية نفسها .

ولقد روى الطبري وغيره أن الآية في صدد منع التوارث التعاقدي حيث كان من عادتهم حينما يدخل واحد في ولاء آخر أن يقول كل منهما للآخر ( وترثني وأرثك ) وأن الآية قد نسخت ذلك . والرواية ليست في الصحاح . ونحن نتوقف فيها لأن ما فيها بعيد عن مضمون الآيات ومقامها . ولقد قال الطبري بعد أن أورد ما أورد بأنه ليس فيها ناسخ ولا منسوخ . ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه . ويتبادر لنا كذلك أن الحكمين اللذين احتوتهما فقرتا الآية متصلان ببعض ، وأن الآية متصلة بالآية الثانية التي منعت بأسلوب مشدد أن يتولى المؤمنون الكافرين وأن يبقوا على ما بينهم وبينهم من صلة وحقوق بسبب الرحم والدم . فجاءت الآية الرابعة لتبين الحكم فيمن يؤمن من الكفار مؤخرا ويلتحق بالمهاجرين ويجاهد معهم . فهؤلاء قد أصبحوا مثلهم . وقد رفع المنع السابق عنهم . وصار لذوي الأرحام من السابقين واللاحقين الحقوق والواجبات المتعارفة بعدما غدوا جميعهم مسلمين . وهذا البيان يسوغ القول : إن الآية متصلة بالسياق جميعه وإنها نزلت مع الآيات الثلاث السابقة لها .

ولقد قال القاسمي في سياق الآية الأخيرة : إن الشيعة الإمامية يستدلون بها على تقدم علي رضي الله عنه على غيره بالإمامة . أي أنهم قد اعتبروا مقام النبوة إرثا يرثه الأقربون من ذوي رحم النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا من غرائبهم الكثيرة في تأويل القرآن لتأييد أهوائهم . وقد نسوا هنا أن عم النبي العباس عاش بعد النبي ، وأنه الأولى رحما من علي رضي الله عنهما . وهذا ما كان يحاج العباسيون به العلويين حينما صار لهم الملك ، وصار العلويون يرون في ذلك غصبا لحقهم .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.