التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنۢ بَعۡدُ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ مَعَكُمۡ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مِنكُمۡۚ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمُۢ} (75)

قوله تعالى : { والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأوليك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله إن الله بكل شيء عليم } أي الذين آمنوا بالله ورسوله من بعد الحديبية وبيعة الرضوان ؛ فهؤلاء أقل رتبة ممن هاجر الهجرة الأولى ؛ لأن الثانية وقع فيها الصلح وهدأت الحرب مدة عامين ثم كان فتح مكة . وفي الحديث : ( لا هجرة بعد الفن ) فمن آمن وهاجر بعد ذلك ؛ فإنه يلتحق بالمؤمنين وهم المهاجرين السابقون . وهذا معنى قوله : { فأولئك منكم } أي في النصر والموالاة ؛ فهم بذلك منكم في الولاية ؛ إذ يجب لهم عليكم من الحق والنصرة في الدين مثل الذي يجب لكم عليهم ولبعضكم على بعض .

وقوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } وليس المراد بأولي الأرحام خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ؛ وإنما يدلون بوارث كالخالة والخال ، والعمة ، وأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ونحوهم . بل إن الآية عامة تشمل جميع القرابات . وفيهم ذوو الأرحام بالاسم المخصوص ، على الخلاف في توريث هؤلاء . وفي الجملة : فغن أولي القرابات أولى بالتوارث . وهذا نسخ للتوارث بالهجرة والنصرة .

أما { أولوا الأرحام } ، وهم من لا سهم لهم في الكتاب الحكيم وليسوا بعصبة كأولاد البنات ، وأولاد الأخوات ، وبنات الأخ ، والعمة ، والخالة ، والعم أخ الأب للأم ، والجد أبي الأم ، والجدة أم الأم ، ومن أولى بهم ، ففي توريث هؤلاء خلاف ؛ فقد قيل : لا يرث من لا فرض له من ذوي الأرحام . وهو قول المالكية والشافعية ، وقد روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت وابن عمر ، وهو رواية عن علي ، وهو قول مكحول والأوزاعي . ووجه هذا القول : الاستناد إلى قوله : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى بعض } وهذا مجمل فيما حصلت فيه الأولوية . فلما قال بعدها : { في كتاب الله } كان معناه في الحكم الذي بينه الله في سورة النساء ؛ فصارت هذه الأولوية مقيدة بما بينه الله من أحكام ذكرها في كتابه الحكيم . وهذه الأحكام هي ميراث العصبات دون غيرها ؛ فلزم بذلك ألا تتعدى المراد من هذا المجمل إلى توريث دوي الأرحام .

وذهب آخرون من أهل العلم إلى توريث أولي أرحام . وهو قول الحنيفة ، وأحمد وإسحاق ، وقال به من الصحابة : عمر بن الخطاب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وعائشة ، وعلي في رواية عنه .

واحتجوا بظاهر هذه الآية : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } وقوله تعالى : { للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } واسم القرابة يشمل بإطلاقه ذوي الأرحام .

واحتجوا من السمة بما أخرجه أبو داود والدارقطني عن المقدام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من ترك كلا فإلي ، ومن ترك مالا فلورثته ؛ فأنا وارث من لا وارث له ؛ أعقل عنه وأرثه ؛ والخال وارث من لا وارث له ؛ يعقل عنه ويرثه ) .

وروي الدارقطني عن طاووس قال : قالت عائشة ( رضي الله عنها ) : ( الله مولي من لا مولى له ، والخال وارث من لا وارث له ) . وروي عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الخال وارث ) .

واستدلوا بالمعقول على توريث أولى الأرحام فقالوا : إن ذوي الأرحام أولى بالتوريث من المسلمين ؛ لأنهم قد اجتمع لهم سببان وهما القرابة والإسلام ، فأشبهوا تقديم الأخ الشقيق على الأخ للأب ؛ فهم أولى ممن له سبب واحد وهو الإسلام .

قوله : { إن الله بكل شيء عليم } اله عليم بالأشياء ، ما ظهر منها وما بطن . وهو سبحانه أعلم بما ينفع الناس وما يصلح عليه حالهم من أحكام وتشريع . وما شرعه الله لعباده لهو الحق والصواب . وليس فيه شيء من البعث او الباطل{[1704]} .


[1704]:تفسير الرازي جـ 15 ص 221 وتفسير ابن كثير جـ 2 ص 230 وتفسير القرطبي جـ 2 ص 59، 60 وبداية المجتهد جـ 2 ص 311.